ذات صباح في أوائل عام 1988سمع إد ماك وليامز المسئول في السلك الدبلوماسي الذي تم تعيينه في السفارة الأميركية في كابول دوي انفجار هائل من مكان ما على الجانب الآخر من المدينة. حدث ذلك بعد أكثر من ثماني سنوات من الغزو الروسي لأفغانستان، وكانت السفارة مقرا صغيرا به عدد قليل من الدبلوماسيين. وكانت مهمة ماك وليامز العضو السابق في الاستخبارات العسكرية أن يغامر بالدخول قدر الإمكان العاصمة التي احتلها السوفيت. وبدأ الآن يري ما حدث.
كان من الواضح أن الانفجار كبير: فرغم وقوع الانفجار على الجانب الآخر من جبل شير دروزة الذي يقع في وسط كابول، إلا أن ماك وليامز سمعه بوضوح. ووجد الموقع بعد التفاوض مع متاهة من الشوارع الضيقة على الجانب الجنوبي من المدينة. تم تفجير سيارة ملغومة ضخمة بهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين في حي مليئ بالأقلية من طائفة الهزارة التي تتعرض لاضطهاد كبير
التقط ماك وليامز صورا للدمار ثم توجه عائدا إلى السفارة، وأرسل تقريرا إلى واشنطن. واستلمت واشنطون التقرير بشكل سيئ للغاية - ليس لأن شخصا ما شن هجوما ارهابيا ضد المدنيين الأفغان، بل لأن ماك وليامزكتب تقريرا عنه . وتبين أن التفجير كان من صنع قلب الدين حكمتيار، قائد المجاهدين الذي حصل علي أموال ودعم من وكالة المخابرات الامريكية أكثر من أي قائد آخر من قادة المجاهدين الأفغان. وكان هذا الهجوم، وهو بداية هجمات كثيرة، جزءا من مخطط بمباركة من وكالة المخابرات المركزية "لفرض ضغوط" على الوجود السوفييتي في كابول. وبالتالي كان إبلاغ الجهاز البيروقراطي في واشنطن أن تفجرات حكمتيار التي تم نشرها لقتل المدنيين غير مرحب بها تماما.
وقال لي ماك وليامز مؤخرا "كانت تلك قنابل قلب الدين .وكان من المفترض أن ينسب له الفضل في هذا." وفي نفس الوقت ذكر لي الدبلوماسي السابق أن وكالة الاستخبارات المركزية ضغطت عليه أن " يكتب تقريرا يقلل فيه من تفاصيل العواقب الإنسانية لتفجيرات السيارات المفخخة."
لقد تتبعت ماك وليامز، المتقاعد حاليا عند الجبال النائية في جنوب نيو مكسيكو، لأن الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تعمل حاليا في سوريا والعراق أعادت إلى الأذهان الجماعات الاسلامية المتطرفة الذين دعمناهم ببذخ في أفغانستان خلال الثمانينات. ولم يكن حكمتيار، الذي تم توثيق ولعه برمي المواد الحارقة في وجوه النساء، قد تعلم شيئا من تنظيم القاعدة. وعندما عقد معه فريقا شجاعا من قناة ايه بي سي نيوز بقيادة زوجتي، ليزلي كوكبرن، مقابلة في عام 1993، كان قد قطع رأس عشرات من الناس في ذلك اليوم. وقتل فيما بعد مترجمهم.
وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر أصبحت قصة دعم الولايات المتحدة للمتشددين الاسلاميين ضد السوفيات موضوعا حساسا. ويفضل المسؤولين السابقين في وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الإشارة الي ان الوكالة كانت ببساطة تلعب أدوار الممول والداعم. وفي روايتهم للأحداث الخاصة بالأعمال القذرة - المتمثلة في الإدارة الفعلية للحملة والتعامل مع جماعات المجاهدين - يرددون أن تلك الأعمال كانت متروكة لجهاز المخابرات الباكستاني. وكان الخطأ في وصول حوالي 70 في المائة على الأقل من إجمالي المساعدات الأمريكية إلى الأصوليين هو خطأ المخابرات الباكستانية، حتى لو كانت وكالة الاستخبارات المركزية تطالب بشكل منتظم بمراجعة الروايات .
لكن المستفيدين لم يرضوا بمجاراة الرواية الرسمية. وعندما وجه فريق ABC نيوز سؤالا لحكمتيار ما إذا كان يتذكر تشارلي ويلسون عضو الكونجرس عن ولاية تكساس الذي خلد في وقت لاحق في الصحافة المطبوعة وعلى الشاشة بإعتباره القديس نصير للمجاهدين، قال حكمتيار باعتزاز انه "كان صديقا جيدا. وكان يدعم جهادنا طوال الوقت. "وعبر آخرون عن نفس النقطة بطرق مختلفة. وتذمر عبد الحق، وهو قائد المجاهدين الذي يمكن وصفه اليوم بأنه من "الثوار المعتدلين"، بصوت عال أثناء وبعد الحرب السوفيتية في أفغانستان من السياسة الأميركية. تأتي المخابرات الامريكية "بحمولة كبيرة من الذخائر والأموال والإمدادات لتعطيها إلى هذه الجماعات الأصولية. فنقول لهم: ماذا يجري بحق الجحيم؟ أنتم تصنعون وحشا في هذا البلد ".
ويتمسك معظم قدامى المحاربين الأمريكيين الذين شاركوا في العملية التي تعد الأكبر في تاريخ وكالة المخابرات المركزية بتعويذة أنه كان استعراضا باكستانيا. ولم تصدر زلات لسان لبعض المسؤولين عن أن دعم اللأصوليين كانت مسألة حسابية تمت بدم بارد إلا من وقت لاخر. أشار روبرت أوكلي الذي لعب دورا رئيسيا في الجهود الأفغانية بصفته سفيرا لباكستان من 1988-1991، في وقت لاحق، "إذا خلطت الإسلام بالسياسة ستحصل علي خليط متفجر أقوي بكثير وقد نجحوا في طرد السوفييت من أفغانستان ".
في الواقع، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تدعم الإسلاميين الأفغان قبل غزو الروس للبلاد في ديسمبر 1979. قال زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، متفاخرا في وقت لاحق لصحيفة لو نوفيل أوبسرفاتور أن الرئيس قد "وقع علي أول أمر بتقديم المساعدات السرية للمعارضين للنظام الموالي للاتحاد السوفياتي في كابول "قبل ستة أشهر من الغزو.وقال بريجنسكي"وهذا اليوم بالذات كتبت مذكرة إلى الرئيس شرحت له أنه في رأيي هذه المساعدات ستحرض على التدخل العسكري السوفيتي." وقتل في الحرب التي لا محالة تلت ذلك الأمر مليون أفغاني.
وهناك قرائن أخرى ثبت أنها أقل دقة، ومنها الإيمان بالبراعة المادية التي يتحلي بها عملائنا الأصوليين وهو ايمان في غير محله. فكما اتضح لم يكن الإسلاميون في الحقيقة هم المحاربين الشرسين ضد السوفييت كما ادعى داعميهم. ذكر ماك وليامز، الذي غادر كابول في عام 1988 ليصبح مبعوثا خاصا للثوار الأفغان، أن حكمتيار كان يهتم أكثر في استخدام ترسانة الأسلحة التي وفرتها له الولايات المتحدة في شن حروب علي أمراء الحرب المنافسين. (في بعض الأحيان كان يعزبهم - وهي الحقيقة التي لم يجرؤ المبعوث علي كتابتها في التقارير). وقال ماك وليامز متذكرا "حكمتيار كان مقاتلا عظيما ولكن ليس بالضرورة مقاتلا السوفييت".
وحتى بعد أن غادر الروس في فبراير 1989 أظهر الأفغان المفضلين لوكالة المخابرات أنهم غير قادرين علي إسقاط نظام محمد نجيب الله المدعوم من السوفييت. فعلي سبيل المثال كان هجوم حكمتيار على مدينة جلال آباد فشلا مثيرا للاحراج. وقال ماك وليامز الذي كان قد نقل تحذيرات عبد الحق واخرين أن الخطة كانت متهورة "كان عواقلي يتفاخر في الأسابيع التي سبقت هذا الهجوم أنه سيحقق نجاحا كبيرا" ، :وأضاف " لقد حجبنا كل هذا. " . وقد أثار اشمئزازه تجنيد مسؤولين في الاستخبارات الباكستانية والأميركية ممن يشرفون على العملية الشباب الذين كانوا وقودا للمدافع. قال لي ماك وليامز"وأنتهى بهم الأمر الي تفريغ مخيمات اللاجئين" . وأضاف "لقد كانت محاولة أخيرة لرمي هؤلاء الصبية البالغين من العمر ستة عشر عاما في المعركة من اجل استمرار هذا الشيئ. لكنها لم تفلح. " وقتل الآلاف.
وحرص المسؤولون الأميركيون علي إخفاء الطبيعة الحقيقية لعلاقتهم مع الأفغان الغير مرغوبين مثل حكمتيار، وكانوا أكثر حرصا عندما يتعلق الأمر بالأصوليين العرب الذين تدفقوا علي أفغانستان للمشاركة في الحرب وأنشأوا فيما بعد الجهاد العالمي وتنظيم القاعدة. لا أحد ينكر أنهم كانوا هناك، ولكن احتمال وجود اتصالات بينهم وبين وكالة الاستخبارات المركزية كان موضوعا حساسا على نحو متزايد مع بروز تنظيم القاعدة في التسعينيات. وقد عبر روبرت غيتس الذي أصبح مديرا لوكالة المخابرات المركزية في عام 1991 أفضل تعبير عن السياسة الرسمية المتمثلة في أن الولايات المتحدة حافظت علي مسافة بينها وبين المجاهدين العرب . كتب روبرت غيتس فيما بعد أنه عندما علمت المخابرات لاول مرة عن تدفق المجندين الجهاديين الي افغانستان من كل انحاء العالم العربي "درسنا سبل زيادة مشاركتهم، ربما في شكل نوع من" لواء دولي، "ولكن ذلك لم يتم."
الواقع كان شيئا اخر . الولايات المتحدة كانت تشارك عن قرب في تجنيد هؤلاء المتطوعين - والواقع أن الكثير منهم انضم من خلال شبكة من مكاتب التجنيد في هذا البلد . وكان نبراس هذه الجهود شيخ فلسطيني مؤثر يدعي عبد الله عزام مؤسس مكتب الخدمات في 1984 لجمع الاموال وحشد المجندين للجهاد . وكان يساعده شاب سعودي ثري يدعي اسامة بن لادن . وكان مقر زراع الولايات المتحدة في العملية يتواجد في بروكلين، في مركز الكفاح لللاجئين بشارع أتلانتك أفينيو الذي كان عزام يداوم علي زيارته عندما كان يقوم بجولات في المساجد والجامعات في الولايات المتحدة .
وقال علي سوفان العميل السابق للمباحث الفيدرالية وخبير مكافحة الارهاب الذي قام بالكثير لفضح برنامج التعذيب الذي نفذته وكالة المخابرات المركزية بعد 11 سبتمبر " يجب أن تضع الأمر في سياقه . طوال معظم الثمانينات كانت هذه البلد تدعم الجهاد في افغانستان وكان تجنيد المسلمين هنا في امريكا مفتوحا . وزار عزام الولايات المتحدة رسميا وتنقل من مسجد الي مسجد - وجندوا الكثير من الناس للقتال في افغانستان تحت هذه الراية "
وتجاوز تعاطي امريكا مع تنظيم عزام مجرد السماح له بممارسة أنشطته . وقال ماك ويليامز في إصرار " لم نشجع علي تجنيد السعوديين فقط بل شجعنا علي تجنيد الفلسطينيين واللبنانيين ومجموعة كبيرة من المحاربين علي الزهاب الي افغانستان للجهاد ". وأضاف " كان ذلك جزء من خطة وكالة المخابرات المركزية . وكان هذا جزء من اللعبة "
وبالطبع كان السعوديين منذ البداية جزءا لا يتجزأ من الحملة ضد السوفييت . ووفقا لمسئول سابق في المخابرات المركزية شارك عن قرب في عملية افغانستان، السعودية كانت توفر 40 بالمئة من ميزانية الثوار .
وقال المسئول أن وليم كيسي الذي كان يدير المخابرات المركزية في فترة رئاسة رونالد ريجان " يطير الي الرياض كل عام فيما يطلق عليه ‘ الحجة السنوية ‘ ليطلب الأموال . واخيرا وبعد محادثات طويلة يوافق الملك ثم نضطر الي الجلوس لنستمع بأدب الي أفكارهم الغبية حول كيفية القتال في الحرب "
ورغم هذه التصريحات سيظهر أن أستراتيجيات الولايات المتحدة والسعودية لا تختلف كثيرا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتوجيه المال للفصائل الأصولية الأكثر تطرفا. محاربة السوفييت لم تكن سوى جزء من الهدف النهائي. وزار الداعية المصري أبو حمزة، الذي يقضي حاليا حكما بالسجن مدى الحياة بتهمة الإرهاب، المملكة العربية السعودية في عام 1986، وتحدث فيما بعد عن الأوامر العلنية المتواصلة للانضمام إلى الجهاد: "عليكم أن تذهبوا وتنضموا وتتركوا مدارسكم وتتركوا أسركم." وأوضح قائلا " المشروع الأفغانستاني كله كان يقصد منه في الواقع صرف الناس عن مشاكل بلدهم ". وكان أشبه" بتنفيس الضغط في طنجرة الطهي. اذا واصلت اغلاق الطنجرة ستنفجر في وجهك، لذلك عليك تصميم فتحة للتنفيس، وكان هذا الجهاد الأفغاني هو فتحة التنفيس ".
واتفق صوفان مع هذا التحليل . وقال لي " أعتقد انه ليس من الانصاف ان نلقي اللوم فقط علي وكالة المخابرات الامريكية . مصر كانت سعيدة بالتخلص من الكثير من هؤلاء الأشخاص وجعلتهم يذهبون الي افغانستان . والسعودية كانت أيضا سعيدة جدا بعمل ذلك . " وكما ذكر، كان هؤلاء الاصوليين الاسلاميين يوجهون الضربات بالفعل لتلك الأنظمة في أوطانهم : فعلي سبيل المثال قام المتطرفين الوهابيين في سنة 1979 باقتحام الحرم المكي وأدي حصار الحرم المكي الي مقتل المئات .
ومع ذلك في غضون سنوات قليلة بدأت الحكومات الداعمة بالاعتراف بوجود خلل في المخطط . ففتحة التنفيس كانت لها اتجاهين . وقد سمعت أوضح تعبير عن هذه النقطة في سنة 1994 في حفل غداء علي ياخت يقوم برحلة نيلية . ورأي المستضيف أنه من الأمان السفر علي سطح الماء نظرا للحملة الارهابية الكبيرة التي يشنها الجهاديين المصريين . وفي الحفلة أثار هذا التكتيك الدفاعي تعليق عنيف من أسامة الباز، كبير المستشارين الأمنيين لحسني مبارك. وقال "كل هذا بسبب خطأ الأوغاد الأغبياء في وكالة الاستخبارات المركزية" . واضاف "دربوا هؤلاء الناس وتركوهم بعد أن غادر الروس، والآن نحصل على هذا."
وقال الباز أن مكتب الخدمات بقي بعد الحرب الافغانية لأجل الانتشار في المستقبل ضد ايران . وقال في اصرار ان تمويلها كان يأتي من السعوديين والسي اي ايه . وأقتطع جزء من هذه الاموال في مكتب الكفاح في بروكلين تحت اشراف أحد مساعدي عزام - حتي مقتل الوصي نفسه ربما علي يد أتباع جهادي منافس . (أكد سوفان قصة القتل، مشيرا إلى أن المبلغ المذكور كان حوالي 100 ألف دولار.) *
وقبل عام من حديثي مع الباز كانت الولايات المتحدة قد دخلت بالفعل في مواجهات مع فتحة التنفيس ذات الاتجاهين . ففي سنة 1993 أدي انفجار قنبلة في الطابق السفلي لأحد برجي مركز التجارة العالمي الي مقتل 6 أشخاص ( كان المفجرين يأملون في نسف البنايتين وقتل عدة الاف ) وكان أحد الأعضاء القياديين في هذا المخطط هو محمود أبو حليمة، وهو محارب سابق في افغانستان كان يعمل طوال سنوات في مركز التجنيد في بروكلين . وأثبت تلميذ اخر من تلاميذ عبد الله عزام أنه يشكل مشكلة أكبر بكثير : إنه اسامة بن لادن الذي بايعه المجاهدين العرب الذين جندهم معلمه
في سنة 1996 أنشأت السي اي ايه وحدة لتعقب بن لادن بقيادة خبير مكافحة الارهاب مايكل شوير . والآن وقد استقر زعيم تنظيم القاعدة في أفغانستان، إختلف مع النظام السعودي الذي كان يدعمه ذات مرة هو والمجاهدين ضد السوفييت وان اكتسبت هذه المواجهة صبغة نظرية. ومع ذلك حافظ بن لادن علي علاقته بوطنه - وكان البعض في وكالة الاستخبارات المركزية حساسية من هذه الحقيقة. عندما أجريت مقابلة مع شوير في عام 2014 من أجل كتابي سلسلة القتل، قال لي أن من أول الطلبات التي طلبها من للسعوديين كانت الحصول على معلومات روتينية حول بن لادن المطارد مثل: شهادة الميلاد، والسجلات المالية، وهكذا دواليك. لم يكن هناك استجابة. ولم تؤدي الطلبات المتكررة الي شيئ. في نهاية المطاف، وصلت رسالة من رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في الرياض، جون برينان، تأمره بوقف الطلبات - فقد كانت تلك الطلبات "تزعج السعوديين."
بعد خمس سنوات دمر تنظيم القاعدة برج التجارة العالمي بعد توظيف فرقة انتحارية معظمها من السعوديين. في عالم عاقل، كان يفترض أن تنهي هذه الكارثة بشكل دائم ميل واشنطن منذ فترة طويلة الخلط بين الإسلام والسياسة. لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة.
في ربيع وصيف العام الماضي، إجتاح تحالف من الجماعات الثورية السورية تطلق على نفسها اسم جيش الفتح محافظة إدلب شمال غرب البلاد، مما شكل تهديدا خطيرا لنظام الأسد. وكان في مقدمة تلك الجماعات فرع تنظيم القاعدة في سوريا، المعروف محليا باسم جبهة النصرة. وكان العنصر الرئيسي الآخر للائتلاف هو جماعة أحرار الشام التي تشكلت في بداية الانتفاضة علي اللأسد وبحثت عنشخص يشكل مصدر إلهام لها فلم تجد سوى عبد الله عزام. وبعد انتصارهم ذبحت جبهة النصرة عشرين من الطائفة الدرزية التي يعتبرها الأصوليين طائفة من الزنادقة، وأجبروا من تبقي من الدروز الي اعتناق الإسلام السني. ( وفر عدد من السكان المسيحيين من المنطقة بحكمة.) وفي الوقت نفسه نشرت أحرار الشام أشرطة فيديو عن عمليات جلد علني طبقتها علي كل من ترك صلاة الجمعة.
وقد تم تشكيل هذا التحالف القوي من الميليشيات الجهادية تحت رعاية الداعمين الرئيسيين للثوار في: المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر. ولكنه حظي أيضا بتأييد اثنين من اللاعبين الرئيسيين الآخرين. في بداية العام أمر زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في مارس أتباعه أن يتعاونوا مع الجماعات الأخرى. ووفقا لمصادر عدة، أمرت "غرفة التنسيق" السعودية التركية الأمريكية الموجودة في جنوب تركيا في شهر مارس الجماعات الثورية التي تزودها بالامدادات بالتعاون مع جيش الفتح. وبعبارة أخرى، سيتم دمج تلك الجماعات داخل ائتلاف تنظيم القاعدة.
قبل بضعة أشهرمن لهجوم إدلب، كان عضوا في احدي الجماعات المدعومة من وكالة المخابرات المركزية قد شرح الطبيعة الحقيقية لعلاقة جماعته بتنظيم القاعدة. وقال لصحيفة نيويورك تايمز أن جبهة النصرة سمحت للميليشيات التي فحصتها الولايات المتحدة أن تظهر علي أنها جماعات مستقلة حتي تستمر في تلقي الإمدادات الأمريكية. وعندما سألت مسؤول سابق في البيت الأبيض ضالع في سياسة سوريا ما اذا كان هذا بمثابة تحالف بحكم الأمر الواقع، جاء رده على هذا النحو: "لن أقول أن تنظيم القاعدة حليفنا، لكن تقلب الأسلحة ربما أمر لا مفر منه. أنا ممن يؤمنون بالأقدار في هذه المسائل. وهذه الأمور ستحدث ".
في بداية الحرب السورية كان المسؤولون الأمريكيون يصرون على التظاهر بأن الأسلحة التي يجري ضخها تصل فقط إلى ما يسمى جماعات المعارضة المعتدلة. ولكن في عام 2014 أكد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب ألقاه في جامعة هارفارد أننا كنا نسلح المتطرفين مرة أخرى، على الرغم من انه كان حريصا على القاء اللوم على حلفاء أمريكا في المنطقة، الذين ندد بهم ووصفهم بأنهم "مشكلتنا الأكبر في سوريا." وردا على سؤال لأحد الطلاب قال متطوعا أن حلفاءنا : " كانوا مصممين علي إسقاط الأسد ومصممين بالأساس علي شن حربا بالوكالة بين السنة والشيعة ، فماذا فعلوا؟ سكبوا مئات الملايين من الدولارات وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة إلى أي شخص سيقاتل الأسد.عدا عن أن الناس الذين يتم تمويلهم وامدادهم كانوا من جبهة النصرة وتنظيم القاعدة والعناصر المتطرفة من الجهاديين القادمين من مناطق أخرى حول العالم. "
تفسير بايدن يذكرنا تماما بالأعذار الرسمية لتسليح الأصوليين في أفغانستان خلال الثمانينات، والتي كانت تصر على أن الباكستانيين كانوا يسيطرون سيطرة كاملة على توزيع الاسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة وأن وكالة المخابرات المركزية كانت غير قادرة على التدخل عندما وصلت معظم تلك الأسلحة الي أمثال قلب الدين حكمتيار. وردا على سؤال لماذا يفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت عاجزة عن إيقاف دول مثل قطر التي يبلغ عدد سكانها 2.19 مليون نسمة من صب الأسلحة في ترسانات النصرة والجماعات المماثلة، أجاب مستشار سابق لإحدى دول الخليج بصوت هادئ: "كانوا لا يريدون ذلك ."
نشأت الحرب السورية التي قتل فيها حتى الآن قتل ما يزيد عن 200 ألف شخص من الاحتجاجات السلمية في مارس 2011، في وقت اجتاحت فيه تحركات مماثلة دولا عربية أخرى. ولقيت هذه الانتفاضات ترحيبا من إدارة أوباما. وبدا أنها تمثل الهزيمة النهائية لتنظيم القاعدة والفكر الجهادي المتطرف، وهو الرأي الذي عكسه عنوان صحيفة نيويورك تايمز التالي في فبراير عام 2011: مع سقوط الأنظمة في العالم العربي، تنظيم القاعدة التاريخ يشهد تاريخه وهو يطير .واعتبر الرئيس مقتل أسامة بن لادن في مايو 2011 بمثابة تتويج لانتصاره. وإعتبر بيتر بيرغن، الناقد المتخصص في شئون الارهاب في قناة سي إن إن ، أن الربيع العربي ووفاة بن لادن هما "الصفحتين الأخيرتين " في الحرب العالمية على الإرهاب.
وعلي الجانب الاخر كان لتنظيم القاعدة تفسيرا مختلفا للربيع العربي، ووصفته بأنه حدث كله إيجابية لقضية الجهاديين. بعيدا عن التوجس بشأن سلامته الخاصة، كما ذكر أوباما، كان الظواهري مفعم بالتفاؤل. وصاح من مقر مجهول قائلا أن "الطغاة" الذين تدعمهم الولايات المتحدة سيشهدون عروشهم تنهار كما هزم "أسيادهم" .كما اعلن حامد بن عبد الله العلي الذي يتولي جمع التبرعات لتنظيم القاعدة في الكويت أن "المشروع الإسلامي هو المستفيد الأكبر من بيئة الحرية."
وبينما كانت الثورات مستمرة، استقرت إدارة أوباما الي أن "الإسلام المعتدل" هو الخيار السياسي الأكثر ملاءمة للديمقراطيات العربية الناشئة - وخلصت إلى أن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة المناسبة لهذه المهمة. وكانت هذه المنظمة المنظمة الاسلامية الجليلة في بداية نشأتها تتلقي دعم البريطانيين كوسيلة لمواجهة الحركات اليسارية والقومية في الامبراطورية. وبعد اضمحلال السلطة البريطانية رحبت قوي أخري، مثل وكالة المخابرات المركزية والسعوديين، برعاية الجماعة لنفس الغرض، متغافلين عن أجندتها على المدى الطويل. ( علي أن السعوديون كانوا دائما حريصين علي منعهم من العمل داخل مملكتهم.)
كانت جماعة الإخوان في الواقع هي الأب الايديولوجي للحركات الإسلامية الأكثر عنفا في العصر الحديث. وكان سيد قطب، الذي كان الروح المحركة للتنظيم حتى اعدامه في مصر في عام 1966، بمثابة مصدر إلهام للظواهري في شبابه عندما شرع في مسيرته الإرهابية. وسار المتطرفين علي نهج سيد قطب في الدعوة إلى الخلافة في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعودة إلى سنن الرسول قبل العصر الحديث.
ولم يمنع كل هذا إدارة أوباما من اعتبار جماعة الإخوان تنظيما حميدا نسبيا يمثل الإسلام المعتدل، لا يختلف كثيرا عن النموزج المطبق في تركيا، حيث يتولي حزب العدالة والتنمية المرتبط بجماعة الاخوان المسلمين الرئاسة هناك في ديمقراطية مزدهرة و اقتصاد نشط، وإن كانت التقليد العلمانية للبلاد تراجعت مرة أخرى. وبعد إنهيار نظام مبارك الاستبدادي في مصر، روج المسؤولين الأميركيين بنشاط للإخوان المسلمين في مصر؛ حيث ورد أن سفيرة الولايات المتحدة، آن باترسون، كانت تعقد اجتماعات بشكل منتظم مع قيادة الجماعة. قال لي المسؤول السابق في البيت الأبيض "الإدارة كان لها دوافع لإظهار أن الولايات المتحدة ستتعامل مع الإسلاميين، على الرغم من أن الجانب السلبي للإخوان كان مفهوما بشكل جيد."
وفي نفس الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تتودد بحذر للإخوان المسلمين كانت تربطها عروة وثقى مع الزمرة الحاكمة الغنية في قطر. هذا البلد الصغير كان يتوق دوما لتأكيد استقلاله في منطقة مجاورة تسيطر عليها المملكة العربية السعودية وإيران. وبينما يستضيف القطريين الجيش الأمريكي في قاعدة العيديد الجوية الشاسعة خارج الدوحة، وضعوا ثقلهم المالي الحاسم وراء ما اعتبروه القوة القادمة في السياسة العربية. وقال لي المسؤول السابق في البيت الأبيض أنهم كانوا متيقنين "أن المستقبل يكمن بالفعل في أيدي الإسلاميين"، ورأوا أنفسهم "على الجانب الصحيح من التاريخ."
وبدت المعارضة السورية المرشحة المثالية لتقديم هذه المساعدة، لا سيما وأن الأسد كان في مرمى الولايات المتحدة لبعض الوقت. (دبرت المخابرات الامريكية انقلابا علي أول حكومة منتخبة ديمقراطيا عام 1949 بناء على طلب من المصالح النفطية الأمريكية التي أغضبها طلب سوريا الحصول علي شروط أفضل لصفقة خط أنابيب.) وفي ديسمبر 2006، أرسل وليام روبوك، المستشار السياسي للسفارة الأمريكية في دمشق، برقية سرية إلى واشنطن، نشرها فيما بعد موقع ويكيليكس، وإقترح عمل "إجراءات وتصريحات وإشارات" يمكن أن تساعد في زعزعة استقرار نظام الأسد. ومن المبادرات الأخرى التي أوصي بها القيام بحملة، بالتنسيق مع الحكومتين المصرية والسعودية، لبث الزعر في الطائفة السنية في سورية من النفوذ الإيراني في البلاد.
وبإمكان روبوك أن يعول على جمهور مرحب. وقبل ذلك بشهر، أدلت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية، بشهادتها في الكابيتول هيل وقالت أن هناك "تحالف استراتيجي جديد" في الشرق الأوسط يفصل بين "المتطرفين" (إيران وسوريا) و "الإصلاحيين" (المملكة العربية السعودية والدول السنية الأخرى ). وكان الحرص علي استخدام هذه العبارات الدبلوماسية الملطفة أمرا أساسيا.وقالها صراحة الأمير بندر بن سلطان، الذي عاد إلى الرياض في عام 2005 بعد سنوات عديدة عمل فيها سفيرا للسعودي في واشنطن، في محادثة سابقة مع ريتشارد ديرلوف، رئيس المخابرات البريطانية MI6 لفترة طويلة. قال بندر "لن يطول الزمن في الشرق الاوسط حتي نسمع حرفيا عبارة كان الله في عون الشيعة. فأكثر من مليارمن السنة ببساطة فاض بهم الكيل." وكان مغزي كلامه واضحا. كان بندر يتحدث عن تدمير الدول الشيعية في إيران والعراق، فضلا عن القيادة العلوية (وهي فرع من الشيعة ) في سوريا.
ومع ذلك فإن الحكام السعوديين يعون تماما تعرضهم لمتلازمة التنفيس المعاكس. ففسادهم وممارساتهم الأخرى المخالفة للدين نفرت الجهاديين الذين أعلنوا أكثر من مرة حرصهم على تنظيف المنزل في وطنهم. وكانت هذه المخاوف واضحة لديرلوف عندما زار الرياض مع توني بلير بعد فترة قصيرة من أحداث 11 سبتمبر. وكما قال فيما بعد، صاح رئيس الاستخبارات السعودية في وجهه أن الهجمات الأخيرة في مانهاتن وواشنطن كانت "مجرد نزهة" مقارنة بالفوضى التي كان المتطرفين يخططون لإطلاق العنان لها في منطقتهم: وقال له "ما يريده هؤلاء الإرهابيين هو تدمير ال سعود وإعادة تشكيل الشرق الأوسط! "
وتبين لديرلوف من هذه التصريحات دافعين قويين (وتكميليين) وراء تفكير القيادة السعودية. أولا، ألا يكون هناك "أي تحد شرعي أو مسموح للنقاء الاسلامي لمسوغات الوهابيين كأوصياء علي الأماكن المقدسة ." (كان سجلهم في قطع الرؤوس واضطهاد المرأة، علي كل حال، لا يعلى عليه). بالإضافة إلى "ميلهم بشدة الي أي تشدد يتصدي بشكل فعال للشيعة ". وردا على هذين الدافعين ستعيد المملكة العربية السعودية فتح فتحة التنفيس. لكن هذه المرة لن يكون الجهاد ضد الشيوعيين الملحدين بل ضد إخوانهم المسلمين في سوريا.
في بداية سنة 2012 كانت السعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة تشارك بكثافة في دعم الثورة المسلحة علي الأسد. ومن الناحية النظرية، كان الدعم الامريكي للجيش السوري الحر يقتصر علي " إمدادات غير قاتلة " من وزارة الخارجية والسي اي ايه . ولم تعمل قطر، التي نجحت في ملأ المجلس الوطني للمعارضة السورية بأعضاء من الاخوان المسلمين، ضمن هذه القيود . وأقلعت قوافل الطائرات القطرية المشحونة من قاعدة العديد وتوجهت الي تركيا وانتقلت من هناك الحمولات القاتلة الي داخل سوريا .
وقال لي المسئول السابق في البيت الابيض : " لم يكن القطريين يميزون علي الإطلاق بين من يعطوهم الأسلحة . كانوا يعطون الأسلحة لمن يحالفه الحظ ويتمكن من استلامها" . وكان أكثرهم حظا جماعتي جبهة النصرة وأحرار الشام، وكلاهما استفاد من الاستراتيجية الجديدة لاوباما . وقبل عام من مقتل بن لادن اشتكي بن لادن من الضرر الذي تعرض له تنظيم القاعدة من فروع تنظيم القاعدة مثل تنظيم القاعدة في العراق المولعة بقطع الرؤس وفظائع مشابهة. وأعطي توجيهاته لموظفي الاعلام الخاص به لاعداد استراتيجية جديدة تتحاشي " أي شيئ يكون له أثر سلبي علي مفهوم " تنظيم القاعدة . ومن المقترحات الجديدة التي تم مناقشتها في مقره في مدينة أبوت أباد إيجاد وسيلة بسيطة لتغيير اسم التنظيم . وتم تطبيق هذه الاستراتيجية بالتدريج في الفروع الجديدة للجماعة مما سمح لجبهة النصرة وأحرار الشام أن يقدموا أنفسهم للسذج علي أنهم اسلاميين أكثر حنوا ولطفا .
والغريب أن هذا البرنامج الجديد ساعد عليه صعود الدولة الاسلامية، وهي الجماعة التي انشقت عن تنظيم القاعدة لأسباب منها وجود اختلافات بشأن عملية تحسين صورة التنظيم التي قام بها الظواهري . ورغم جزب الدولة الاسلامية للعديد من المنشقين عن التنظيم وكسبوا أراضي علي حساب شركائهم السابقين في جبهة النصرة، إلا أن ما عرف عنها من التطرف في الوحشية جعل الجماعات الاخري تبدو أكثر انسانية بالمقارنة بها . (وفقا لدفيد غارتن ستاين روس، وهوزميل بارز في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، يشك كثير من أعضاء النصرة أن الدولة الإسلامية أنشأها الأمريكيين "لتشويه سمعة الجهاد.")
وفي نفس الوقت كانت المملكة العربية السعودية حريصة، بدافع العداوة الشرسة تجاه إيران الداعمة الرئيسية للأسد، على رمي ثقلها وراء الحملة المناهضة للأسد. وبحلول ديسمبر 2012 كانت وكالة الاستخبارات المركزية بدأت ترتيب كميات كبيرة من الأسلحة دفع ثمنها السعوديين لتنتقل من كرواتيا إلى الأردن إلى سوريا.
وأوضح المسؤول السابق في البيت الأبيض "كان السعوديون يفضلون العمل من خلالنا، فلم يكن لديهم قدرة ذاتية علي العثور على الأسلحة. كنا الوسطاء، مع بعض السيطرة على التوزيع. كان هناك وهم ضمني من جانب الولايات المتحدة أن الأسلحة السعودية كانت في طريقها لجماعات موقفها مؤيدة للغرب. "لكن هذا الوهم يثير الاستغراب، نظرا لثقافة المملكة العربية السعودية القائمة علي التشدد الوهابي وكذلك تصريح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، في برقية سرية ارسلتها عام 2009، أن "الجهات المانحة في المملكة العربية السعودية تشكل أهم مصدر لتمويل الجماعات الارهابية السنية في جميع أنحاء العالم."
ويثاور البعض في دوائر الاستخبارات شكوك أن هذا التمويل مستمر. وسأل ديرلوف في يوليو 2014 "كم من الأموال السعودية والقطرية التي تم نقلها الي داعش ووصلت اليها - وأنا لا أقصد التمويل الحكومي المباشر، بل أقصد أنها ربما غضت الطرف عن انتقال تلك الأموال ؟" . " أن تتمكن داعش من اقتحام المناطق السنية في العراق بالطريقة التي تمت في الآونة الأخيرة فلابد وأن ذلك كان نتيجة لتمويل كبير ومتواصل. فمثل هذه الامور لا تحدث من تلقاء نفسها.بهذه البساطة " . ويميل الطرف المتلقي لهجمات الدولة الإسلامية إلى الاتفاقمع هذا الرأي. فردا على سؤال عما يمكن القيام به لمساعدة العراق في أعقاب اعتداءات الجماعة الخاطفة في صيف عام 2014، أجاب دبلوماسي عراقي: "أقصفوا المملكة العربية السعودية."
ورغم تدفق الأموال انتهي الأمر بالسعوديين الي صياغة تحالفهم الاسلامي الخاص بهم.وقال مستشار لدولة خليجية "السعوديون لم يسلحوا جبهة النصرة أبدا. لقد وضعوا حساباتهم أنه ستوجد هناك شهية لميليشيات ذات ميول إسلامية. لذلك شكلوا جيشا منافسا يسمي جيش الاسلام. وكان هذا هو البديل السعودي - فهو وإن كان جيشا اسلاميا لكنه ليس من الإخوان المسلمين".
ونظرا لأن جيش الاسلام كان في نهاية المطاف خاضعا لمسئولية الأمير بندر، الذي أصبح رئيس الاستخبارات السعودية في عام 2012، لم يكن هناك مجالا للقيم الغربية في أجندة تلك الجماعة. وقد كان زعيمها زهران علوش ابنا لرجل دين سوري. وتحدث للصحفيين الغربيين بأخلاص عن مزايا التسامح، لكنه عاد الي المواضيع الغير منضبطة سياسيا مثل الطرد الجماعي للعلويين من دمشق عند خطابه الي زملائه الجهاديين. وفي الوقت نفسه تدافع الشباب السعودي للدخول إلى سوريا، على استعداد للقتال من أجل أي جماعة متطرفة تضمهم اليها، حتى ولو كانت تلك الجماعات تتقاتل فيما بينها. وتباكي مذيع سعودي في احدي البرامج الحواريةعلي الأعداد الهائلة من الشباب السعودي في خطوط المعركة في سوريا قائلا "أبناؤنا يقاتلون علي كلا الجانبين" - بمعنى النصرة والدولة الإسلامية. وهتف قائلا "السعوديون يقتل بعضهم بعضا!"
أصبح تصميم تركيا (عضو حلف الناتو) وقطر (المستضيفة لأكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط) علي دعم الجماعات الجهادية المتطرفة واضحا بشكل صارخ في أواخر عام 2013. ففي 6 ديسمبر قام مقاتلين مسلحين من أحرار الشام وميليشيات أخري بمداهمة مستودعات أسلحة في باب الهوى على الحدود التركية واستولوا علي امدادات تابعة للجيش السوري الحر. وأثناء حدوث ذلك كان من المقرر عقد اجتماع لمجموعة التنسيق الدولية الخاصة بسوريا، ما يسمى مجموعة لندن الإحدي عشر ، في الأسبوع التالي. وعزم مندوبين من الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط على إصدار إدانة صارمة للجماعة الجهادية المخالفة.
لكن الأتراك والقطريين رفضوا التوقيع بعناد .وقال لي أحد المشاركين فيما بعد، "كانت جميع الدول في الغرفة تفهم أن معارضة تركيا لإدراج أحرار الشام كان لأنهم كانوا يقدمون الدعم لهم." وأصر ممثل قطر أن إدانة هذه الجماعات الإرهابية سيأتي بنتائج عكسية.وصرح بأنه لو فعلت الدول الاخري ذلك فستتوقف قطر عن التعاون في الشأن السوري . وقال لي المصدر : "، في الأساس، كانوا يقولون إذا قمتم بتسميتهم بالإرهابيين فسنحزم أمتعتنا ونعود الى أوطاننا" . وقال مندوب الولايات المتحدة أن الجبهة الإسلامية، وهي تنظيم له مظلة، ستكون موضع ترحيب على طاولة المفاوضات - ولكن أحرار الشام التي تصادف أن تكون عضوا بارزا فيها ليست غير مرحب بها. وتباحث الدبلوماسيين حول اصدار بيانهم وتبادلوا التنازلات وعدلوا لغة البيان. ولم يرد في الصيغة النهائية أي إدانة، أو حتى ذكر، لأحرار الشام.
وبعد مرور عامين ظلت قدرة واشنطن علي الإنكار في مواجهة الحقائق المزعجة ثابتة ولم تضعف. أثناء تناول ليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية السابق، لموضوع هيمنة المتطرفين علي المعارضة السورية، ألقي باللوم علي فشلنا في البداية في تسليح المعتدلين بعيدي المنال. ونادرا ما تذكر العواقب الكارثية لهذا النهج ذاته في ليبيا. وقال غارنشتاين روس "لو كنا قد تدخلنا بسرعة أكبر في سوريا فربما كان أفضل سيناريو هو ليبيا أخري. وهذا يعني أننا كنا سنظل نتعامل مع دولة منهارة تمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وأوروبا ".
حتى لو واصلنا حملة القصف المشتت علي الدولة الإسلامية، فإن تجمع أحرار الشام والنصرة سيزحف ليقترب أكثر فأكثر من الاحترام الدولي. وبعد شهر من اجتماع مجموعة لندن الأحد عشر، نشرت مجموعة من الأساتذة من معهد بروكينغز مقالا دافعوا فيه عن أحرار الشام: "تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية قد يأتي بنتائج عكسية من خلال دفعها الي المعسكر التابع لتنظيم القاعدة . "(وكان استلام المعهد مؤخرا منحة قدرها 15 مليون دولار من قطر من قبيل الصدفة بلا شك).
وخلال العام الماضي عبرت شخصيات بارزة أخرى عن دعمها لوجود علاقة أوثق مع امتدادات تنظيم القاعدة بأسمائها الجديدة. ورأي ديفيد بتريوس، وهو رئيس سابق اخر لوكالة المخابرات المركزية، تسليح الأطراف "الأكثر اعتدالا" في جبهة النصرة. ودعا روبرت فورد، السفير السابق في سوريا والمؤيد الصاخب للقضية الثوار، أميركا إلى "فتح قنوات للحوار" مع أحرار الشام، حتى ولو كان أفرادها في بعض الأحيان ذبحوا بعض العلويين ودنسوا المواقع المسيحية. وحتى مؤسسة الفورين أفيرز رددت هذه المفاهيم وإقترحت أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة إلى "إعادة النظر في سياستها تجاه تنظيم القاعدة، وخصوصا استهداف الظواهري".
قالت بينظير بوتو، رئيسة وزراء باكستان، في عام 1993 عندما تكشفت العواقب المؤلمة لداعمي تعزيز الجهاد "لنكون منصفين للسي اي ايه . لم يعلموا أبدا أن هؤلاء الناس الذين يدربونهم لمحاربة السوفييت في أفغانستان سيعضون في يوم من الأيام اليد التي أطعمتهم."
الأمور أكثر وضوحا على أرض الواقع. فمنذ وقت ليس ببعيد، بعيدا عن مراكز البحوث وغرف الإحاطة حيث تصاغ السياسات وتنسج، تحدث صبي صغير من قلب أرض النصرة الي مصور موقع فايس نيوز الاخباري عن أسامة بن لادن. قال الصبي "لقد أرعب وقاتل الأمريكان" وقال أخيه الطفل الأصغر منه الجالس بجواره وهو يصف مستقبله: "أن أصبح مقاتلا انتحاريا في سبيل الله". وعند سؤال حافلة تقل أولادا أكبر سنا ما هي الجماعة التي ينتمون اليها فردوا في سرور "القاعدة، تنظيم القاعدة،" .
http://harpers.org/archive/2016/01/a-special-relationship/
كان من الواضح أن الانفجار كبير: فرغم وقوع الانفجار على الجانب الآخر من جبل شير دروزة الذي يقع في وسط كابول، إلا أن ماك وليامز سمعه بوضوح. ووجد الموقع بعد التفاوض مع متاهة من الشوارع الضيقة على الجانب الجنوبي من المدينة. تم تفجير سيارة ملغومة ضخمة بهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين في حي مليئ بالأقلية من طائفة الهزارة التي تتعرض لاضطهاد كبير
التقط ماك وليامز صورا للدمار ثم توجه عائدا إلى السفارة، وأرسل تقريرا إلى واشنطن. واستلمت واشنطون التقرير بشكل سيئ للغاية - ليس لأن شخصا ما شن هجوما ارهابيا ضد المدنيين الأفغان، بل لأن ماك وليامزكتب تقريرا عنه . وتبين أن التفجير كان من صنع قلب الدين حكمتيار، قائد المجاهدين الذي حصل علي أموال ودعم من وكالة المخابرات الامريكية أكثر من أي قائد آخر من قادة المجاهدين الأفغان. وكان هذا الهجوم، وهو بداية هجمات كثيرة، جزءا من مخطط بمباركة من وكالة المخابرات المركزية "لفرض ضغوط" على الوجود السوفييتي في كابول. وبالتالي كان إبلاغ الجهاز البيروقراطي في واشنطن أن تفجرات حكمتيار التي تم نشرها لقتل المدنيين غير مرحب بها تماما.
وقال لي ماك وليامز مؤخرا "كانت تلك قنابل قلب الدين .وكان من المفترض أن ينسب له الفضل في هذا." وفي نفس الوقت ذكر لي الدبلوماسي السابق أن وكالة الاستخبارات المركزية ضغطت عليه أن " يكتب تقريرا يقلل فيه من تفاصيل العواقب الإنسانية لتفجيرات السيارات المفخخة."
لقد تتبعت ماك وليامز، المتقاعد حاليا عند الجبال النائية في جنوب نيو مكسيكو، لأن الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تعمل حاليا في سوريا والعراق أعادت إلى الأذهان الجماعات الاسلامية المتطرفة الذين دعمناهم ببذخ في أفغانستان خلال الثمانينات. ولم يكن حكمتيار، الذي تم توثيق ولعه برمي المواد الحارقة في وجوه النساء، قد تعلم شيئا من تنظيم القاعدة. وعندما عقد معه فريقا شجاعا من قناة ايه بي سي نيوز بقيادة زوجتي، ليزلي كوكبرن، مقابلة في عام 1993، كان قد قطع رأس عشرات من الناس في ذلك اليوم. وقتل فيما بعد مترجمهم.
وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر أصبحت قصة دعم الولايات المتحدة للمتشددين الاسلاميين ضد السوفيات موضوعا حساسا. ويفضل المسؤولين السابقين في وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الإشارة الي ان الوكالة كانت ببساطة تلعب أدوار الممول والداعم. وفي روايتهم للأحداث الخاصة بالأعمال القذرة - المتمثلة في الإدارة الفعلية للحملة والتعامل مع جماعات المجاهدين - يرددون أن تلك الأعمال كانت متروكة لجهاز المخابرات الباكستاني. وكان الخطأ في وصول حوالي 70 في المائة على الأقل من إجمالي المساعدات الأمريكية إلى الأصوليين هو خطأ المخابرات الباكستانية، حتى لو كانت وكالة الاستخبارات المركزية تطالب بشكل منتظم بمراجعة الروايات .
لكن المستفيدين لم يرضوا بمجاراة الرواية الرسمية. وعندما وجه فريق ABC نيوز سؤالا لحكمتيار ما إذا كان يتذكر تشارلي ويلسون عضو الكونجرس عن ولاية تكساس الذي خلد في وقت لاحق في الصحافة المطبوعة وعلى الشاشة بإعتباره القديس نصير للمجاهدين، قال حكمتيار باعتزاز انه "كان صديقا جيدا. وكان يدعم جهادنا طوال الوقت. "وعبر آخرون عن نفس النقطة بطرق مختلفة. وتذمر عبد الحق، وهو قائد المجاهدين الذي يمكن وصفه اليوم بأنه من "الثوار المعتدلين"، بصوت عال أثناء وبعد الحرب السوفيتية في أفغانستان من السياسة الأميركية. تأتي المخابرات الامريكية "بحمولة كبيرة من الذخائر والأموال والإمدادات لتعطيها إلى هذه الجماعات الأصولية. فنقول لهم: ماذا يجري بحق الجحيم؟ أنتم تصنعون وحشا في هذا البلد ".
ويتمسك معظم قدامى المحاربين الأمريكيين الذين شاركوا في العملية التي تعد الأكبر في تاريخ وكالة المخابرات المركزية بتعويذة أنه كان استعراضا باكستانيا. ولم تصدر زلات لسان لبعض المسؤولين عن أن دعم اللأصوليين كانت مسألة حسابية تمت بدم بارد إلا من وقت لاخر. أشار روبرت أوكلي الذي لعب دورا رئيسيا في الجهود الأفغانية بصفته سفيرا لباكستان من 1988-1991، في وقت لاحق، "إذا خلطت الإسلام بالسياسة ستحصل علي خليط متفجر أقوي بكثير وقد نجحوا في طرد السوفييت من أفغانستان ".
في الواقع، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تدعم الإسلاميين الأفغان قبل غزو الروس للبلاد في ديسمبر 1979. قال زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، متفاخرا في وقت لاحق لصحيفة لو نوفيل أوبسرفاتور أن الرئيس قد "وقع علي أول أمر بتقديم المساعدات السرية للمعارضين للنظام الموالي للاتحاد السوفياتي في كابول "قبل ستة أشهر من الغزو.وقال بريجنسكي"وهذا اليوم بالذات كتبت مذكرة إلى الرئيس شرحت له أنه في رأيي هذه المساعدات ستحرض على التدخل العسكري السوفيتي." وقتل في الحرب التي لا محالة تلت ذلك الأمر مليون أفغاني.
وهناك قرائن أخرى ثبت أنها أقل دقة، ومنها الإيمان بالبراعة المادية التي يتحلي بها عملائنا الأصوليين وهو ايمان في غير محله. فكما اتضح لم يكن الإسلاميون في الحقيقة هم المحاربين الشرسين ضد السوفييت كما ادعى داعميهم. ذكر ماك وليامز، الذي غادر كابول في عام 1988 ليصبح مبعوثا خاصا للثوار الأفغان، أن حكمتيار كان يهتم أكثر في استخدام ترسانة الأسلحة التي وفرتها له الولايات المتحدة في شن حروب علي أمراء الحرب المنافسين. (في بعض الأحيان كان يعزبهم - وهي الحقيقة التي لم يجرؤ المبعوث علي كتابتها في التقارير). وقال ماك وليامز متذكرا "حكمتيار كان مقاتلا عظيما ولكن ليس بالضرورة مقاتلا السوفييت".
وحتى بعد أن غادر الروس في فبراير 1989 أظهر الأفغان المفضلين لوكالة المخابرات أنهم غير قادرين علي إسقاط نظام محمد نجيب الله المدعوم من السوفييت. فعلي سبيل المثال كان هجوم حكمتيار على مدينة جلال آباد فشلا مثيرا للاحراج. وقال ماك وليامز الذي كان قد نقل تحذيرات عبد الحق واخرين أن الخطة كانت متهورة "كان عواقلي يتفاخر في الأسابيع التي سبقت هذا الهجوم أنه سيحقق نجاحا كبيرا" ، :وأضاف " لقد حجبنا كل هذا. " . وقد أثار اشمئزازه تجنيد مسؤولين في الاستخبارات الباكستانية والأميركية ممن يشرفون على العملية الشباب الذين كانوا وقودا للمدافع. قال لي ماك وليامز"وأنتهى بهم الأمر الي تفريغ مخيمات اللاجئين" . وأضاف "لقد كانت محاولة أخيرة لرمي هؤلاء الصبية البالغين من العمر ستة عشر عاما في المعركة من اجل استمرار هذا الشيئ. لكنها لم تفلح. " وقتل الآلاف.
وحرص المسؤولون الأميركيون علي إخفاء الطبيعة الحقيقية لعلاقتهم مع الأفغان الغير مرغوبين مثل حكمتيار، وكانوا أكثر حرصا عندما يتعلق الأمر بالأصوليين العرب الذين تدفقوا علي أفغانستان للمشاركة في الحرب وأنشأوا فيما بعد الجهاد العالمي وتنظيم القاعدة. لا أحد ينكر أنهم كانوا هناك، ولكن احتمال وجود اتصالات بينهم وبين وكالة الاستخبارات المركزية كان موضوعا حساسا على نحو متزايد مع بروز تنظيم القاعدة في التسعينيات. وقد عبر روبرت غيتس الذي أصبح مديرا لوكالة المخابرات المركزية في عام 1991 أفضل تعبير عن السياسة الرسمية المتمثلة في أن الولايات المتحدة حافظت علي مسافة بينها وبين المجاهدين العرب . كتب روبرت غيتس فيما بعد أنه عندما علمت المخابرات لاول مرة عن تدفق المجندين الجهاديين الي افغانستان من كل انحاء العالم العربي "درسنا سبل زيادة مشاركتهم، ربما في شكل نوع من" لواء دولي، "ولكن ذلك لم يتم."
الواقع كان شيئا اخر . الولايات المتحدة كانت تشارك عن قرب في تجنيد هؤلاء المتطوعين - والواقع أن الكثير منهم انضم من خلال شبكة من مكاتب التجنيد في هذا البلد . وكان نبراس هذه الجهود شيخ فلسطيني مؤثر يدعي عبد الله عزام مؤسس مكتب الخدمات في 1984 لجمع الاموال وحشد المجندين للجهاد . وكان يساعده شاب سعودي ثري يدعي اسامة بن لادن . وكان مقر زراع الولايات المتحدة في العملية يتواجد في بروكلين، في مركز الكفاح لللاجئين بشارع أتلانتك أفينيو الذي كان عزام يداوم علي زيارته عندما كان يقوم بجولات في المساجد والجامعات في الولايات المتحدة .
وقال علي سوفان العميل السابق للمباحث الفيدرالية وخبير مكافحة الارهاب الذي قام بالكثير لفضح برنامج التعذيب الذي نفذته وكالة المخابرات المركزية بعد 11 سبتمبر " يجب أن تضع الأمر في سياقه . طوال معظم الثمانينات كانت هذه البلد تدعم الجهاد في افغانستان وكان تجنيد المسلمين هنا في امريكا مفتوحا . وزار عزام الولايات المتحدة رسميا وتنقل من مسجد الي مسجد - وجندوا الكثير من الناس للقتال في افغانستان تحت هذه الراية "
وتجاوز تعاطي امريكا مع تنظيم عزام مجرد السماح له بممارسة أنشطته . وقال ماك ويليامز في إصرار " لم نشجع علي تجنيد السعوديين فقط بل شجعنا علي تجنيد الفلسطينيين واللبنانيين ومجموعة كبيرة من المحاربين علي الزهاب الي افغانستان للجهاد ". وأضاف " كان ذلك جزء من خطة وكالة المخابرات المركزية . وكان هذا جزء من اللعبة "
وبالطبع كان السعوديين منذ البداية جزءا لا يتجزأ من الحملة ضد السوفييت . ووفقا لمسئول سابق في المخابرات المركزية شارك عن قرب في عملية افغانستان، السعودية كانت توفر 40 بالمئة من ميزانية الثوار .
وقال المسئول أن وليم كيسي الذي كان يدير المخابرات المركزية في فترة رئاسة رونالد ريجان " يطير الي الرياض كل عام فيما يطلق عليه ‘ الحجة السنوية ‘ ليطلب الأموال . واخيرا وبعد محادثات طويلة يوافق الملك ثم نضطر الي الجلوس لنستمع بأدب الي أفكارهم الغبية حول كيفية القتال في الحرب "
ورغم هذه التصريحات سيظهر أن أستراتيجيات الولايات المتحدة والسعودية لا تختلف كثيرا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتوجيه المال للفصائل الأصولية الأكثر تطرفا. محاربة السوفييت لم تكن سوى جزء من الهدف النهائي. وزار الداعية المصري أبو حمزة، الذي يقضي حاليا حكما بالسجن مدى الحياة بتهمة الإرهاب، المملكة العربية السعودية في عام 1986، وتحدث فيما بعد عن الأوامر العلنية المتواصلة للانضمام إلى الجهاد: "عليكم أن تذهبوا وتنضموا وتتركوا مدارسكم وتتركوا أسركم." وأوضح قائلا " المشروع الأفغانستاني كله كان يقصد منه في الواقع صرف الناس عن مشاكل بلدهم ". وكان أشبه" بتنفيس الضغط في طنجرة الطهي. اذا واصلت اغلاق الطنجرة ستنفجر في وجهك، لذلك عليك تصميم فتحة للتنفيس، وكان هذا الجهاد الأفغاني هو فتحة التنفيس ".
واتفق صوفان مع هذا التحليل . وقال لي " أعتقد انه ليس من الانصاف ان نلقي اللوم فقط علي وكالة المخابرات الامريكية . مصر كانت سعيدة بالتخلص من الكثير من هؤلاء الأشخاص وجعلتهم يذهبون الي افغانستان . والسعودية كانت أيضا سعيدة جدا بعمل ذلك . " وكما ذكر، كان هؤلاء الاصوليين الاسلاميين يوجهون الضربات بالفعل لتلك الأنظمة في أوطانهم : فعلي سبيل المثال قام المتطرفين الوهابيين في سنة 1979 باقتحام الحرم المكي وأدي حصار الحرم المكي الي مقتل المئات .
ومع ذلك في غضون سنوات قليلة بدأت الحكومات الداعمة بالاعتراف بوجود خلل في المخطط . ففتحة التنفيس كانت لها اتجاهين . وقد سمعت أوضح تعبير عن هذه النقطة في سنة 1994 في حفل غداء علي ياخت يقوم برحلة نيلية . ورأي المستضيف أنه من الأمان السفر علي سطح الماء نظرا للحملة الارهابية الكبيرة التي يشنها الجهاديين المصريين . وفي الحفلة أثار هذا التكتيك الدفاعي تعليق عنيف من أسامة الباز، كبير المستشارين الأمنيين لحسني مبارك. وقال "كل هذا بسبب خطأ الأوغاد الأغبياء في وكالة الاستخبارات المركزية" . واضاف "دربوا هؤلاء الناس وتركوهم بعد أن غادر الروس، والآن نحصل على هذا."
وقال الباز أن مكتب الخدمات بقي بعد الحرب الافغانية لأجل الانتشار في المستقبل ضد ايران . وقال في اصرار ان تمويلها كان يأتي من السعوديين والسي اي ايه . وأقتطع جزء من هذه الاموال في مكتب الكفاح في بروكلين تحت اشراف أحد مساعدي عزام - حتي مقتل الوصي نفسه ربما علي يد أتباع جهادي منافس . (أكد سوفان قصة القتل، مشيرا إلى أن المبلغ المذكور كان حوالي 100 ألف دولار.) *
وقبل عام من حديثي مع الباز كانت الولايات المتحدة قد دخلت بالفعل في مواجهات مع فتحة التنفيس ذات الاتجاهين . ففي سنة 1993 أدي انفجار قنبلة في الطابق السفلي لأحد برجي مركز التجارة العالمي الي مقتل 6 أشخاص ( كان المفجرين يأملون في نسف البنايتين وقتل عدة الاف ) وكان أحد الأعضاء القياديين في هذا المخطط هو محمود أبو حليمة، وهو محارب سابق في افغانستان كان يعمل طوال سنوات في مركز التجنيد في بروكلين . وأثبت تلميذ اخر من تلاميذ عبد الله عزام أنه يشكل مشكلة أكبر بكثير : إنه اسامة بن لادن الذي بايعه المجاهدين العرب الذين جندهم معلمه
في سنة 1996 أنشأت السي اي ايه وحدة لتعقب بن لادن بقيادة خبير مكافحة الارهاب مايكل شوير . والآن وقد استقر زعيم تنظيم القاعدة في أفغانستان، إختلف مع النظام السعودي الذي كان يدعمه ذات مرة هو والمجاهدين ضد السوفييت وان اكتسبت هذه المواجهة صبغة نظرية. ومع ذلك حافظ بن لادن علي علاقته بوطنه - وكان البعض في وكالة الاستخبارات المركزية حساسية من هذه الحقيقة. عندما أجريت مقابلة مع شوير في عام 2014 من أجل كتابي سلسلة القتل، قال لي أن من أول الطلبات التي طلبها من للسعوديين كانت الحصول على معلومات روتينية حول بن لادن المطارد مثل: شهادة الميلاد، والسجلات المالية، وهكذا دواليك. لم يكن هناك استجابة. ولم تؤدي الطلبات المتكررة الي شيئ. في نهاية المطاف، وصلت رسالة من رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في الرياض، جون برينان، تأمره بوقف الطلبات - فقد كانت تلك الطلبات "تزعج السعوديين."
بعد خمس سنوات دمر تنظيم القاعدة برج التجارة العالمي بعد توظيف فرقة انتحارية معظمها من السعوديين. في عالم عاقل، كان يفترض أن تنهي هذه الكارثة بشكل دائم ميل واشنطن منذ فترة طويلة الخلط بين الإسلام والسياسة. لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة.
في ربيع وصيف العام الماضي، إجتاح تحالف من الجماعات الثورية السورية تطلق على نفسها اسم جيش الفتح محافظة إدلب شمال غرب البلاد، مما شكل تهديدا خطيرا لنظام الأسد. وكان في مقدمة تلك الجماعات فرع تنظيم القاعدة في سوريا، المعروف محليا باسم جبهة النصرة. وكان العنصر الرئيسي الآخر للائتلاف هو جماعة أحرار الشام التي تشكلت في بداية الانتفاضة علي اللأسد وبحثت عنشخص يشكل مصدر إلهام لها فلم تجد سوى عبد الله عزام. وبعد انتصارهم ذبحت جبهة النصرة عشرين من الطائفة الدرزية التي يعتبرها الأصوليين طائفة من الزنادقة، وأجبروا من تبقي من الدروز الي اعتناق الإسلام السني. ( وفر عدد من السكان المسيحيين من المنطقة بحكمة.) وفي الوقت نفسه نشرت أحرار الشام أشرطة فيديو عن عمليات جلد علني طبقتها علي كل من ترك صلاة الجمعة.
وقد تم تشكيل هذا التحالف القوي من الميليشيات الجهادية تحت رعاية الداعمين الرئيسيين للثوار في: المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر. ولكنه حظي أيضا بتأييد اثنين من اللاعبين الرئيسيين الآخرين. في بداية العام أمر زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في مارس أتباعه أن يتعاونوا مع الجماعات الأخرى. ووفقا لمصادر عدة، أمرت "غرفة التنسيق" السعودية التركية الأمريكية الموجودة في جنوب تركيا في شهر مارس الجماعات الثورية التي تزودها بالامدادات بالتعاون مع جيش الفتح. وبعبارة أخرى، سيتم دمج تلك الجماعات داخل ائتلاف تنظيم القاعدة.
قبل بضعة أشهرمن لهجوم إدلب، كان عضوا في احدي الجماعات المدعومة من وكالة المخابرات المركزية قد شرح الطبيعة الحقيقية لعلاقة جماعته بتنظيم القاعدة. وقال لصحيفة نيويورك تايمز أن جبهة النصرة سمحت للميليشيات التي فحصتها الولايات المتحدة أن تظهر علي أنها جماعات مستقلة حتي تستمر في تلقي الإمدادات الأمريكية. وعندما سألت مسؤول سابق في البيت الأبيض ضالع في سياسة سوريا ما اذا كان هذا بمثابة تحالف بحكم الأمر الواقع، جاء رده على هذا النحو: "لن أقول أن تنظيم القاعدة حليفنا، لكن تقلب الأسلحة ربما أمر لا مفر منه. أنا ممن يؤمنون بالأقدار في هذه المسائل. وهذه الأمور ستحدث ".
في بداية الحرب السورية كان المسؤولون الأمريكيون يصرون على التظاهر بأن الأسلحة التي يجري ضخها تصل فقط إلى ما يسمى جماعات المعارضة المعتدلة. ولكن في عام 2014 أكد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب ألقاه في جامعة هارفارد أننا كنا نسلح المتطرفين مرة أخرى، على الرغم من انه كان حريصا على القاء اللوم على حلفاء أمريكا في المنطقة، الذين ندد بهم ووصفهم بأنهم "مشكلتنا الأكبر في سوريا." وردا على سؤال لأحد الطلاب قال متطوعا أن حلفاءنا : " كانوا مصممين علي إسقاط الأسد ومصممين بالأساس علي شن حربا بالوكالة بين السنة والشيعة ، فماذا فعلوا؟ سكبوا مئات الملايين من الدولارات وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة إلى أي شخص سيقاتل الأسد.عدا عن أن الناس الذين يتم تمويلهم وامدادهم كانوا من جبهة النصرة وتنظيم القاعدة والعناصر المتطرفة من الجهاديين القادمين من مناطق أخرى حول العالم. "
تفسير بايدن يذكرنا تماما بالأعذار الرسمية لتسليح الأصوليين في أفغانستان خلال الثمانينات، والتي كانت تصر على أن الباكستانيين كانوا يسيطرون سيطرة كاملة على توزيع الاسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة وأن وكالة المخابرات المركزية كانت غير قادرة على التدخل عندما وصلت معظم تلك الأسلحة الي أمثال قلب الدين حكمتيار. وردا على سؤال لماذا يفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت عاجزة عن إيقاف دول مثل قطر التي يبلغ عدد سكانها 2.19 مليون نسمة من صب الأسلحة في ترسانات النصرة والجماعات المماثلة، أجاب مستشار سابق لإحدى دول الخليج بصوت هادئ: "كانوا لا يريدون ذلك ."
نشأت الحرب السورية التي قتل فيها حتى الآن قتل ما يزيد عن 200 ألف شخص من الاحتجاجات السلمية في مارس 2011، في وقت اجتاحت فيه تحركات مماثلة دولا عربية أخرى. ولقيت هذه الانتفاضات ترحيبا من إدارة أوباما. وبدا أنها تمثل الهزيمة النهائية لتنظيم القاعدة والفكر الجهادي المتطرف، وهو الرأي الذي عكسه عنوان صحيفة نيويورك تايمز التالي في فبراير عام 2011: مع سقوط الأنظمة في العالم العربي، تنظيم القاعدة التاريخ يشهد تاريخه وهو يطير .واعتبر الرئيس مقتل أسامة بن لادن في مايو 2011 بمثابة تتويج لانتصاره. وإعتبر بيتر بيرغن، الناقد المتخصص في شئون الارهاب في قناة سي إن إن ، أن الربيع العربي ووفاة بن لادن هما "الصفحتين الأخيرتين " في الحرب العالمية على الإرهاب.
وعلي الجانب الاخر كان لتنظيم القاعدة تفسيرا مختلفا للربيع العربي، ووصفته بأنه حدث كله إيجابية لقضية الجهاديين. بعيدا عن التوجس بشأن سلامته الخاصة، كما ذكر أوباما، كان الظواهري مفعم بالتفاؤل. وصاح من مقر مجهول قائلا أن "الطغاة" الذين تدعمهم الولايات المتحدة سيشهدون عروشهم تنهار كما هزم "أسيادهم" .كما اعلن حامد بن عبد الله العلي الذي يتولي جمع التبرعات لتنظيم القاعدة في الكويت أن "المشروع الإسلامي هو المستفيد الأكبر من بيئة الحرية."
وبينما كانت الثورات مستمرة، استقرت إدارة أوباما الي أن "الإسلام المعتدل" هو الخيار السياسي الأكثر ملاءمة للديمقراطيات العربية الناشئة - وخلصت إلى أن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة المناسبة لهذه المهمة. وكانت هذه المنظمة المنظمة الاسلامية الجليلة في بداية نشأتها تتلقي دعم البريطانيين كوسيلة لمواجهة الحركات اليسارية والقومية في الامبراطورية. وبعد اضمحلال السلطة البريطانية رحبت قوي أخري، مثل وكالة المخابرات المركزية والسعوديين، برعاية الجماعة لنفس الغرض، متغافلين عن أجندتها على المدى الطويل. ( علي أن السعوديون كانوا دائما حريصين علي منعهم من العمل داخل مملكتهم.)
كانت جماعة الإخوان في الواقع هي الأب الايديولوجي للحركات الإسلامية الأكثر عنفا في العصر الحديث. وكان سيد قطب، الذي كان الروح المحركة للتنظيم حتى اعدامه في مصر في عام 1966، بمثابة مصدر إلهام للظواهري في شبابه عندما شرع في مسيرته الإرهابية. وسار المتطرفين علي نهج سيد قطب في الدعوة إلى الخلافة في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعودة إلى سنن الرسول قبل العصر الحديث.
ولم يمنع كل هذا إدارة أوباما من اعتبار جماعة الإخوان تنظيما حميدا نسبيا يمثل الإسلام المعتدل، لا يختلف كثيرا عن النموزج المطبق في تركيا، حيث يتولي حزب العدالة والتنمية المرتبط بجماعة الاخوان المسلمين الرئاسة هناك في ديمقراطية مزدهرة و اقتصاد نشط، وإن كانت التقليد العلمانية للبلاد تراجعت مرة أخرى. وبعد إنهيار نظام مبارك الاستبدادي في مصر، روج المسؤولين الأميركيين بنشاط للإخوان المسلمين في مصر؛ حيث ورد أن سفيرة الولايات المتحدة، آن باترسون، كانت تعقد اجتماعات بشكل منتظم مع قيادة الجماعة. قال لي المسؤول السابق في البيت الأبيض "الإدارة كان لها دوافع لإظهار أن الولايات المتحدة ستتعامل مع الإسلاميين، على الرغم من أن الجانب السلبي للإخوان كان مفهوما بشكل جيد."
وفي نفس الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تتودد بحذر للإخوان المسلمين كانت تربطها عروة وثقى مع الزمرة الحاكمة الغنية في قطر. هذا البلد الصغير كان يتوق دوما لتأكيد استقلاله في منطقة مجاورة تسيطر عليها المملكة العربية السعودية وإيران. وبينما يستضيف القطريين الجيش الأمريكي في قاعدة العيديد الجوية الشاسعة خارج الدوحة، وضعوا ثقلهم المالي الحاسم وراء ما اعتبروه القوة القادمة في السياسة العربية. وقال لي المسؤول السابق في البيت الأبيض أنهم كانوا متيقنين "أن المستقبل يكمن بالفعل في أيدي الإسلاميين"، ورأوا أنفسهم "على الجانب الصحيح من التاريخ."
وبدت المعارضة السورية المرشحة المثالية لتقديم هذه المساعدة، لا سيما وأن الأسد كان في مرمى الولايات المتحدة لبعض الوقت. (دبرت المخابرات الامريكية انقلابا علي أول حكومة منتخبة ديمقراطيا عام 1949 بناء على طلب من المصالح النفطية الأمريكية التي أغضبها طلب سوريا الحصول علي شروط أفضل لصفقة خط أنابيب.) وفي ديسمبر 2006، أرسل وليام روبوك، المستشار السياسي للسفارة الأمريكية في دمشق، برقية سرية إلى واشنطن، نشرها فيما بعد موقع ويكيليكس، وإقترح عمل "إجراءات وتصريحات وإشارات" يمكن أن تساعد في زعزعة استقرار نظام الأسد. ومن المبادرات الأخرى التي أوصي بها القيام بحملة، بالتنسيق مع الحكومتين المصرية والسعودية، لبث الزعر في الطائفة السنية في سورية من النفوذ الإيراني في البلاد.
وبإمكان روبوك أن يعول على جمهور مرحب. وقبل ذلك بشهر، أدلت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية، بشهادتها في الكابيتول هيل وقالت أن هناك "تحالف استراتيجي جديد" في الشرق الأوسط يفصل بين "المتطرفين" (إيران وسوريا) و "الإصلاحيين" (المملكة العربية السعودية والدول السنية الأخرى ). وكان الحرص علي استخدام هذه العبارات الدبلوماسية الملطفة أمرا أساسيا.وقالها صراحة الأمير بندر بن سلطان، الذي عاد إلى الرياض في عام 2005 بعد سنوات عديدة عمل فيها سفيرا للسعودي في واشنطن، في محادثة سابقة مع ريتشارد ديرلوف، رئيس المخابرات البريطانية MI6 لفترة طويلة. قال بندر "لن يطول الزمن في الشرق الاوسط حتي نسمع حرفيا عبارة كان الله في عون الشيعة. فأكثر من مليارمن السنة ببساطة فاض بهم الكيل." وكان مغزي كلامه واضحا. كان بندر يتحدث عن تدمير الدول الشيعية في إيران والعراق، فضلا عن القيادة العلوية (وهي فرع من الشيعة ) في سوريا.
ومع ذلك فإن الحكام السعوديين يعون تماما تعرضهم لمتلازمة التنفيس المعاكس. ففسادهم وممارساتهم الأخرى المخالفة للدين نفرت الجهاديين الذين أعلنوا أكثر من مرة حرصهم على تنظيف المنزل في وطنهم. وكانت هذه المخاوف واضحة لديرلوف عندما زار الرياض مع توني بلير بعد فترة قصيرة من أحداث 11 سبتمبر. وكما قال فيما بعد، صاح رئيس الاستخبارات السعودية في وجهه أن الهجمات الأخيرة في مانهاتن وواشنطن كانت "مجرد نزهة" مقارنة بالفوضى التي كان المتطرفين يخططون لإطلاق العنان لها في منطقتهم: وقال له "ما يريده هؤلاء الإرهابيين هو تدمير ال سعود وإعادة تشكيل الشرق الأوسط! "
وتبين لديرلوف من هذه التصريحات دافعين قويين (وتكميليين) وراء تفكير القيادة السعودية. أولا، ألا يكون هناك "أي تحد شرعي أو مسموح للنقاء الاسلامي لمسوغات الوهابيين كأوصياء علي الأماكن المقدسة ." (كان سجلهم في قطع الرؤوس واضطهاد المرأة، علي كل حال، لا يعلى عليه). بالإضافة إلى "ميلهم بشدة الي أي تشدد يتصدي بشكل فعال للشيعة ". وردا على هذين الدافعين ستعيد المملكة العربية السعودية فتح فتحة التنفيس. لكن هذه المرة لن يكون الجهاد ضد الشيوعيين الملحدين بل ضد إخوانهم المسلمين في سوريا.
في بداية سنة 2012 كانت السعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة تشارك بكثافة في دعم الثورة المسلحة علي الأسد. ومن الناحية النظرية، كان الدعم الامريكي للجيش السوري الحر يقتصر علي " إمدادات غير قاتلة " من وزارة الخارجية والسي اي ايه . ولم تعمل قطر، التي نجحت في ملأ المجلس الوطني للمعارضة السورية بأعضاء من الاخوان المسلمين، ضمن هذه القيود . وأقلعت قوافل الطائرات القطرية المشحونة من قاعدة العديد وتوجهت الي تركيا وانتقلت من هناك الحمولات القاتلة الي داخل سوريا .
وقال لي المسئول السابق في البيت الابيض : " لم يكن القطريين يميزون علي الإطلاق بين من يعطوهم الأسلحة . كانوا يعطون الأسلحة لمن يحالفه الحظ ويتمكن من استلامها" . وكان أكثرهم حظا جماعتي جبهة النصرة وأحرار الشام، وكلاهما استفاد من الاستراتيجية الجديدة لاوباما . وقبل عام من مقتل بن لادن اشتكي بن لادن من الضرر الذي تعرض له تنظيم القاعدة من فروع تنظيم القاعدة مثل تنظيم القاعدة في العراق المولعة بقطع الرؤس وفظائع مشابهة. وأعطي توجيهاته لموظفي الاعلام الخاص به لاعداد استراتيجية جديدة تتحاشي " أي شيئ يكون له أثر سلبي علي مفهوم " تنظيم القاعدة . ومن المقترحات الجديدة التي تم مناقشتها في مقره في مدينة أبوت أباد إيجاد وسيلة بسيطة لتغيير اسم التنظيم . وتم تطبيق هذه الاستراتيجية بالتدريج في الفروع الجديدة للجماعة مما سمح لجبهة النصرة وأحرار الشام أن يقدموا أنفسهم للسذج علي أنهم اسلاميين أكثر حنوا ولطفا .
والغريب أن هذا البرنامج الجديد ساعد عليه صعود الدولة الاسلامية، وهي الجماعة التي انشقت عن تنظيم القاعدة لأسباب منها وجود اختلافات بشأن عملية تحسين صورة التنظيم التي قام بها الظواهري . ورغم جزب الدولة الاسلامية للعديد من المنشقين عن التنظيم وكسبوا أراضي علي حساب شركائهم السابقين في جبهة النصرة، إلا أن ما عرف عنها من التطرف في الوحشية جعل الجماعات الاخري تبدو أكثر انسانية بالمقارنة بها . (وفقا لدفيد غارتن ستاين روس، وهوزميل بارز في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، يشك كثير من أعضاء النصرة أن الدولة الإسلامية أنشأها الأمريكيين "لتشويه سمعة الجهاد.")
وفي نفس الوقت كانت المملكة العربية السعودية حريصة، بدافع العداوة الشرسة تجاه إيران الداعمة الرئيسية للأسد، على رمي ثقلها وراء الحملة المناهضة للأسد. وبحلول ديسمبر 2012 كانت وكالة الاستخبارات المركزية بدأت ترتيب كميات كبيرة من الأسلحة دفع ثمنها السعوديين لتنتقل من كرواتيا إلى الأردن إلى سوريا.
وأوضح المسؤول السابق في البيت الأبيض "كان السعوديون يفضلون العمل من خلالنا، فلم يكن لديهم قدرة ذاتية علي العثور على الأسلحة. كنا الوسطاء، مع بعض السيطرة على التوزيع. كان هناك وهم ضمني من جانب الولايات المتحدة أن الأسلحة السعودية كانت في طريقها لجماعات موقفها مؤيدة للغرب. "لكن هذا الوهم يثير الاستغراب، نظرا لثقافة المملكة العربية السعودية القائمة علي التشدد الوهابي وكذلك تصريح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، في برقية سرية ارسلتها عام 2009، أن "الجهات المانحة في المملكة العربية السعودية تشكل أهم مصدر لتمويل الجماعات الارهابية السنية في جميع أنحاء العالم."
ويثاور البعض في دوائر الاستخبارات شكوك أن هذا التمويل مستمر. وسأل ديرلوف في يوليو 2014 "كم من الأموال السعودية والقطرية التي تم نقلها الي داعش ووصلت اليها - وأنا لا أقصد التمويل الحكومي المباشر، بل أقصد أنها ربما غضت الطرف عن انتقال تلك الأموال ؟" . " أن تتمكن داعش من اقتحام المناطق السنية في العراق بالطريقة التي تمت في الآونة الأخيرة فلابد وأن ذلك كان نتيجة لتمويل كبير ومتواصل. فمثل هذه الامور لا تحدث من تلقاء نفسها.بهذه البساطة " . ويميل الطرف المتلقي لهجمات الدولة الإسلامية إلى الاتفاقمع هذا الرأي. فردا على سؤال عما يمكن القيام به لمساعدة العراق في أعقاب اعتداءات الجماعة الخاطفة في صيف عام 2014، أجاب دبلوماسي عراقي: "أقصفوا المملكة العربية السعودية."
ورغم تدفق الأموال انتهي الأمر بالسعوديين الي صياغة تحالفهم الاسلامي الخاص بهم.وقال مستشار لدولة خليجية "السعوديون لم يسلحوا جبهة النصرة أبدا. لقد وضعوا حساباتهم أنه ستوجد هناك شهية لميليشيات ذات ميول إسلامية. لذلك شكلوا جيشا منافسا يسمي جيش الاسلام. وكان هذا هو البديل السعودي - فهو وإن كان جيشا اسلاميا لكنه ليس من الإخوان المسلمين".
ونظرا لأن جيش الاسلام كان في نهاية المطاف خاضعا لمسئولية الأمير بندر، الذي أصبح رئيس الاستخبارات السعودية في عام 2012، لم يكن هناك مجالا للقيم الغربية في أجندة تلك الجماعة. وقد كان زعيمها زهران علوش ابنا لرجل دين سوري. وتحدث للصحفيين الغربيين بأخلاص عن مزايا التسامح، لكنه عاد الي المواضيع الغير منضبطة سياسيا مثل الطرد الجماعي للعلويين من دمشق عند خطابه الي زملائه الجهاديين. وفي الوقت نفسه تدافع الشباب السعودي للدخول إلى سوريا، على استعداد للقتال من أجل أي جماعة متطرفة تضمهم اليها، حتى ولو كانت تلك الجماعات تتقاتل فيما بينها. وتباكي مذيع سعودي في احدي البرامج الحواريةعلي الأعداد الهائلة من الشباب السعودي في خطوط المعركة في سوريا قائلا "أبناؤنا يقاتلون علي كلا الجانبين" - بمعنى النصرة والدولة الإسلامية. وهتف قائلا "السعوديون يقتل بعضهم بعضا!"
أصبح تصميم تركيا (عضو حلف الناتو) وقطر (المستضيفة لأكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط) علي دعم الجماعات الجهادية المتطرفة واضحا بشكل صارخ في أواخر عام 2013. ففي 6 ديسمبر قام مقاتلين مسلحين من أحرار الشام وميليشيات أخري بمداهمة مستودعات أسلحة في باب الهوى على الحدود التركية واستولوا علي امدادات تابعة للجيش السوري الحر. وأثناء حدوث ذلك كان من المقرر عقد اجتماع لمجموعة التنسيق الدولية الخاصة بسوريا، ما يسمى مجموعة لندن الإحدي عشر ، في الأسبوع التالي. وعزم مندوبين من الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط على إصدار إدانة صارمة للجماعة الجهادية المخالفة.
لكن الأتراك والقطريين رفضوا التوقيع بعناد .وقال لي أحد المشاركين فيما بعد، "كانت جميع الدول في الغرفة تفهم أن معارضة تركيا لإدراج أحرار الشام كان لأنهم كانوا يقدمون الدعم لهم." وأصر ممثل قطر أن إدانة هذه الجماعات الإرهابية سيأتي بنتائج عكسية.وصرح بأنه لو فعلت الدول الاخري ذلك فستتوقف قطر عن التعاون في الشأن السوري . وقال لي المصدر : "، في الأساس، كانوا يقولون إذا قمتم بتسميتهم بالإرهابيين فسنحزم أمتعتنا ونعود الى أوطاننا" . وقال مندوب الولايات المتحدة أن الجبهة الإسلامية، وهي تنظيم له مظلة، ستكون موضع ترحيب على طاولة المفاوضات - ولكن أحرار الشام التي تصادف أن تكون عضوا بارزا فيها ليست غير مرحب بها. وتباحث الدبلوماسيين حول اصدار بيانهم وتبادلوا التنازلات وعدلوا لغة البيان. ولم يرد في الصيغة النهائية أي إدانة، أو حتى ذكر، لأحرار الشام.
وبعد مرور عامين ظلت قدرة واشنطن علي الإنكار في مواجهة الحقائق المزعجة ثابتة ولم تضعف. أثناء تناول ليون بانيتا، مدير وكالة المخابرات المركزية السابق، لموضوع هيمنة المتطرفين علي المعارضة السورية، ألقي باللوم علي فشلنا في البداية في تسليح المعتدلين بعيدي المنال. ونادرا ما تذكر العواقب الكارثية لهذا النهج ذاته في ليبيا. وقال غارنشتاين روس "لو كنا قد تدخلنا بسرعة أكبر في سوريا فربما كان أفضل سيناريو هو ليبيا أخري. وهذا يعني أننا كنا سنظل نتعامل مع دولة منهارة تمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وأوروبا ".
حتى لو واصلنا حملة القصف المشتت علي الدولة الإسلامية، فإن تجمع أحرار الشام والنصرة سيزحف ليقترب أكثر فأكثر من الاحترام الدولي. وبعد شهر من اجتماع مجموعة لندن الأحد عشر، نشرت مجموعة من الأساتذة من معهد بروكينغز مقالا دافعوا فيه عن أحرار الشام: "تصنيف هذه الجماعة كمنظمة إرهابية قد يأتي بنتائج عكسية من خلال دفعها الي المعسكر التابع لتنظيم القاعدة . "(وكان استلام المعهد مؤخرا منحة قدرها 15 مليون دولار من قطر من قبيل الصدفة بلا شك).
وخلال العام الماضي عبرت شخصيات بارزة أخرى عن دعمها لوجود علاقة أوثق مع امتدادات تنظيم القاعدة بأسمائها الجديدة. ورأي ديفيد بتريوس، وهو رئيس سابق اخر لوكالة المخابرات المركزية، تسليح الأطراف "الأكثر اعتدالا" في جبهة النصرة. ودعا روبرت فورد، السفير السابق في سوريا والمؤيد الصاخب للقضية الثوار، أميركا إلى "فتح قنوات للحوار" مع أحرار الشام، حتى ولو كان أفرادها في بعض الأحيان ذبحوا بعض العلويين ودنسوا المواقع المسيحية. وحتى مؤسسة الفورين أفيرز رددت هذه المفاهيم وإقترحت أن الوقت قد حان بالنسبة للولايات المتحدة إلى "إعادة النظر في سياستها تجاه تنظيم القاعدة، وخصوصا استهداف الظواهري".
قالت بينظير بوتو، رئيسة وزراء باكستان، في عام 1993 عندما تكشفت العواقب المؤلمة لداعمي تعزيز الجهاد "لنكون منصفين للسي اي ايه . لم يعلموا أبدا أن هؤلاء الناس الذين يدربونهم لمحاربة السوفييت في أفغانستان سيعضون في يوم من الأيام اليد التي أطعمتهم."
الأمور أكثر وضوحا على أرض الواقع. فمنذ وقت ليس ببعيد، بعيدا عن مراكز البحوث وغرف الإحاطة حيث تصاغ السياسات وتنسج، تحدث صبي صغير من قلب أرض النصرة الي مصور موقع فايس نيوز الاخباري عن أسامة بن لادن. قال الصبي "لقد أرعب وقاتل الأمريكان" وقال أخيه الطفل الأصغر منه الجالس بجواره وهو يصف مستقبله: "أن أصبح مقاتلا انتحاريا في سبيل الله". وعند سؤال حافلة تقل أولادا أكبر سنا ما هي الجماعة التي ينتمون اليها فردوا في سرور "القاعدة، تنظيم القاعدة،" .
http://harpers.org/archive/2016/01/a-special-relationship/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق