كتب باتريك كوكبيرن الذي يكتب في صحيفة الاندبندنت البريطانية : " في سوريا الجميع تقريبا تحت الحصار بدرجة تزيد أو تنقص " . ومع ذلك يعتقد معظم الناس أن الحصار الوحيد في سوريا هو الحصار الذي تفرضه القوات السورية والروسية علي شرق حلب . لكن الحصار كشكل من أشكال الحرب ليس مقصورا علي الجيش العربي السوري والجيش الروسي.
بل علي العكس، الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها كانوا يمارسون حرب فرض الحصار في الشام وغيرها منذ سنوات ولا تزال تفعل ذلك . الاختلاف هو في أن حرب الحصار التي تقودها الولايات المتحدة تتخفي وراء المهدئات، بل وتتخفي حتي وراء التوصيفات البطولية، بينما يمقت المسئولين الغربيين الحصار الذي تفرضه دولا معادية للولايات المتحدة ويزرفون عليه دموع التماسيح
فيما يلي كيف تتم عملية الخداع :
قيام الولايات المتحدة وحلفائها بفرض الحصار علي المدن التي تسيطر عليها داعش يسمونها عمليات انقاذ، أو يسمونها حملات لتحرير أو استعادة المدن - ولا يطلقون عليها أبدا حصارا . ويتم تجاهل عمليات الحصار الاخري التي تفرضها الجماعة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، جبهة فتح الشام، التي كان يطلق عليها في السابق جبهة النصرة، وسأسميها تنظيم القاعدة للتسهيل علي القراء ( وهذا التجاهل ربما يشي بشيئ عن وجود علاقة بين فرع تنظيم القاعدة في سوريا والولايات المتحدة ) . ويتم تقديم أحد أشكال الحصار الضارة - المتمثل في العقوبات الاقتصادية - علي أنه فئة منفصلة تماما وليست حربا بفرض حصار علي الإطلاق
لكن العقوبات التي تفرضها الدول الغنية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي علي الدول الفقيرة مثل سوريا هي شكل من أشكال الحصار في العصر الحديث، ويطلق عليها عقوبات الدمار الشامل لما لها من طبيعة مدمرة
وعمليات فرض الحصار في الشام التي يعرفها المسئولين الحكوميين الغربيين ومن ورائهم الاعلام الغربي علي هذا النحو، هي عمليات حصار علي مدن يسيطر عليها تنظيم القاعدة وتتنفذها قوات الحكومة وحلفائها. ويدين الغرب عمليات فرض الحصار تلك - التي تسبب الجوع وتقتل المدنيين وتدمر المباني - ويعتبرها هجمات ضارية علي المدنيين ترقي لجرائم حرب . وكتبت صحيفة وول ستريت جورنال : " لقد خلق القصف الروسي الداعم لحصار قوات الحكومة السورية لحلب أزمة انسانية " . وطالب قرار صدر عن مجلس الأمن التابع للامم المتحدة - اعترضت عليه روسيا باستخدام حق الفيتو - بإنهاء القصف الروسي لحلب . وتحدث وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون عن تقديم عريضة اتهام بارتكاب جرائم حرب ضد روسيا وسوريا .
ومع ذلك فإن الحملات الامريكية لطرد داعش من منبيج وكوباني ( عين العرب ) والرمادي والفلوجة وتكريت والموصل حاليا تسببت ايضا في الجوع وقتل المدنيين وتدمير المباني. وعلي عكس حصار الجيش السوري لشرق حلب، تم الاحتفال بهذه الحملات العسكرية بإعتبارها انتصارا عسكريا عظيما وضروريا، رغم أن هذه الحملات نفسها تسببت في أزمات انسانية جسيمة
منظر لأحد الأحياء المدمرة في مدينة كوباني في سوريا التي استهدفتها
الضربات الجوية الامريكية. الصورة نقلا عن صحيفة الواشنطون بوست
وكتب كوكبيرن أن " استعادة مدنا مثل الرمادي والفالوجة وتكريت لم تكن لتحدث لولا الغطاء الجوي للتحالف في السماء " . وتلك المدن هي التي حررتها القوات العراقية وقصفتها القوات الامريكية وأجبرتها علي الإزعان، رغم حصار المدنيين داخل تلك المدن. ولم تتحرك القوات البرية العراقية إلا بعد أن تحولت تلك المدن الي ركام بفضل الضربات الجوية للتحالف وقصف المدفعية العراقية لتقوم قواتها بعملية التنظيف الكامل لتلك المدن
وذكرت رانيا خالق التي تكتب في صحيفة الانترسيبت أن " القوات البرية المدعومة من الولايات المتحدة فرضت حصارا علي مدينة منبيج الواقعة في شمال سوريا ولا تبعد كثيرا عن مدينة حلب ويقطنها عشرات الالاف من المدنيين . وكانت الضربات الجوية الامريكية تدك المدينة طوال الصيف مما أدي لمقتل 150 مدني في ضربة جوية واحدة. وقد استنسخت الولايات المتحدة تلك الاستراتيجية من طرد داعش من مدينة كوباني ( عين العرب ) والرمادي والفالوجة تاركين وراءهم أحياءا سويت بالأرض "
لكي تستعيد القوات العراقية الرمادي من داعش فرضت حصارا وطوقا أمنيا علي المدينة. وعلاوة علي ذلك قام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بقصف مدينة الرمادي بالضربات الجوية ونيران المدفعية. وأدي القصف الي تدمير 70% من مباني المدينة. وتم استعادة المدينة، لكن " غالبية سكانها المقدر عددهم 400 ألف نسمة " أصبحوا بلا مأوي .
تدمير سوق تجاري في مدينة الرمادي بالعراق نتيجة الضربات الجوية
الامريكية ( تصوير علي المشهداني، رويترز )
وحاصرت القوات العراقية ايضا مدينة الفالوجة ومنعت دخول معظم المواد الغذائية والدواء والوقود للمدينة. الميليشيات " منعت المدنيين من مغادرة مناطق داعش ورفضت في الوقت نفسه دعوات بالسماح بوصول المساعدات الانسانية للمدينة " . وتم ذلك " لخنق داعش " مما أدي الي " خنق " المدنيين ايضا. وتحمل عشرات الالاف من المدنيين داخل المدينة الجوع والمرض نظرا لنقص الدواء. وتحدثت الاخبار أن المدنيين كانوا يعيشون علي العشب والأشجار. ومات الكثير من المدنيين " تحت المباني التي انهارت بسبب " قصف المدفعية والضربات الجوية للتحالف " .
وتقوم الحملة العسكرية الحالية لاستعادة الموصل علي نفس استراتيجية الحصار التي استخدمتها القوات الامريكية وعملائهم العراقيين لتحرير الرمادي والفالوجة . فقد كانت الطائرات الامريكية وطائرات الحلفاء يقصفون المدينة طوال شهور
وتتحرك القوات العراقية بمساعدة القوات الخاصة الامريكية لتطويق مدينة الموصل. " وقدرت احدي جماعات المساعدات أن حوالي مليون شخص قد يتعرضوا للتشريد بسبب القتال الدائر لاستعادة المدينة مما يخلق أزمة انسانية كبيرة تقول الامم المتحدة ومنظمات اخري انهم غير مستعدين للتعامل معها "
وعلق الصحفي والكاتب جوناثان كوك علي النفاق المطلق الذي يمارسه الغربيين الذين يدينون الحملة العسكرية السورية الروسية لتحرير شرق حلب من المقاتلين الاسلاميين بينما يحتفلون بالحملة العسكرية العراقية الامريكية التي تقوم بنفس الشيئ في الموصل. وقارن كوك بين تقريرين صحفيين نشرتهما صحيفة الجارديات البريطانية لإظهار قلب الغرب النابض للجميع ما عدا من أغرقتهم الامبراطورية الامريكية في بحر من الدماء
في التقرير الاول تقدم الجارديان تغطية داعمة لهجوم خانق تقوم به القوات العراقية المدعومة من امريكا وبريطانيا علي مدينة الموصل لاستردادها من الجهاديين التابعين لداعش - وهو هجوم سيؤدي حتما الي وقوع عدد كبير من الضحايا وسيتسبب في معاناة انسانية للسكان المدنيين
في التقرير الثاني تقدم الجارديان تغطية داعمة لفرض الولايات المتحدة وبريطانيا عقوبات علي سوريا وروسيا. ما هي أسباب العقوبات ؟ لأن القوات السورية المدعومة من روسيا تشن حربا للقيام بهجوم خانق علي حلب لاستعادتها من الجهاديين التابعين لداعش وتنظيم القاعدة - وهو الهجوم الذي أدي الي سقوط عدد كبير من الضحايا من السكان المدنيين
وتركز الدعاية الغربية علي إغفال الطبيعة الاسلاموية لمسلحي تنظيم القاعدة الذين طغوا في شرق حلب. وتحقق ذلك بمنحهم صفة " الثوار " بينما " الثوار " الذين طغوا في المدن التي تحاصرها الولايات المتحدة وحلفائها يسمونهم مقاتلي " الدولة الاسلامية " أو " داعش "
الهدف من ذلك هو اعطاء انطباع ان عمليات الحصار بقيادة الولايات المتحدة موجهة ضد ارهابيين اسلاميين وبالتالي فعمليات الحصار تلك مبررة، رغم ما تسببه من أزمات انسانية، بينما الحملة العسكرية التي تقودها سوريا في شرق حلب موجهة ضد الثوار وبالتالي فهي حملة غير مشروعة. وهذا جزء من حملة دعاية امريكية موسعة لصنع صنفين من المسلحين الاسلاميين - صنف الاسلاميين الطيبين وصنف الاسلاميين الأشرار.
يتكون الصنف الأول، وهم الاسلاميين الطيبين، من تنظيم القاعدة والمقاتلين الذين يتعاونون معها، من ضمنهم جماعات تدعمها امريكا ممن تقتصر عملياتهم العسكرية علي قتال العلمانيين في دمشق وبالتالي تستفيد منهم الولايات المتحدة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية في اسقاط حكومة القومية العربية في سوريا. وتم " تطهير " هؤلاء المقاتلين الاسلاميين واعتبارهم " ثوار "
يتكون الصنف الثاني، وهم الاسلاميين الأشرار، من الدولة الاسلامية ( داعش ) . فداعش لديها طموحات تجعلها غير مقبولة لدي واشنطون كأداة تستخدمها في تحقيق أهداف سياساتها الخارجية. فزعيم هذا التنظيم، أبو بكر البغدادي، يطمح أن يكون قائدا لخلافة تلغي حدود سايكس بيكو، وبالتالي فهو يشكل تهديدا، ليس فقط للقوميين العرب في دمشق - الذين يمثلون العدو المشترك لداعش والولايات المتحدة - بل تشكل ايضا تهديدا للدول العميلة للولايات المتحدة مثل العراق والسعودية اللتان تشن داعش هجمات عليهما. وهدف امريكا بخصوص داعش هو طرد هذا التنظيم من العراق ( وخارج المناطق الواقعة تحت سيطرة المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة ) ودخولهم بقية المناطق السورية حتي يتمكنوا من إنهاك قوات الجيش العربي السوري
ثوار حلب من جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة
أعداد " الثوار " " المعتدلين " في سوريا قليلة، هذا لو كان يوجد منهم معتدلين بالمعني العلماني الديمقراطي ورتبهم محدودة بالتأكيد حتي أن تسليحهم، من وجهة نظر الرئيس الامريكي باراك اوباما، لن يحدث أي تغيير. وقال الرئيس اوباما للكاتب الصحفي توماس فريدمان الذي يكتب في النيويورك تايمز أن ادارته وجدت " صعوبة في العثور علي كادر كافي من الثوار السوريين العلمانيين وتدريبهم وتسليحهم . واعترف اوباما قائلا: " لا يوجد قدر من الكفاءة التي تتمناها ". وتأكد تقييم اوباما عندما " أقر جنرال امريكي انهم لم يجدوا سوا سبعة مقاتلين " معتدلين " في سوريا بعد إنفاق 500 مليون دولار علي تدريبهم " . وإعتبر مراسل الشرق الاوسط المخضرم روبرت فيسك فكرة وجود مقاتلين " معتدلين " بأنها فكرة خيالية. وكتب فيسك : " أشك في وجود 700 جندي مشاة " معتدل " في سوريا . وسأكون سخيا لدرجة اني سأجعل الرقم يصل لحوالي 70 "
وذكرت اليزابيث أوباغي، التي قامت بعدد من الرحلات الي سوريا وعقدت لقاءات مع القادة العسكريين للثوار لصالح معهد دراسة الحرب، للصحفية بن هوبارد من صحيفة النيويورك تايمز : " أشعر أنه لا يوجد علمانيين " . واكتشف المقاتلين المعارضين للحكومة الذين عقدت الوول ستريت جورنال لقاءات معهم أن المفهوم الغربي للثائر السوري العلماني مفهوما غامضا
لنكون واضحين : القوات السورية والروسية تشن حملة لتحرير شرق حلب من الاسلاميين الذين لا يختلفون عن داعش إلا في أن داعش تشكل تهديدا للدول العميلة لامريكا، العراق والسعودية
وقد قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الامريكية الكولونيل ستيف وارين في 25 ابريل في اشارة الي تنظيم القاعدة : " جبهة النصرة هي الجماعة الرئيسية التي تسيطر علي حلب " . ويوجد ايضا تنظيمات اسلامية مسلحة اخري في حلب، منها جماعات تدعمها امريكا، متشابكة مع تنظيم القاعدة ومندمجة معه وتتشارك معه السلاح وتتعاون معه وتعمل كمساعد له
وكتب المؤلف والكاتب الصحفي ستيفن كينزر في صحيفة بوستون غلوب التالي :
" المسلحين الذين يرتكبون اعمال العنف كانوا يديرون حلب طوال ثلاث سنوات. وبدأوا حكمهم بموجة من القمع . وقد وضعوا لافتات تحذر المواطنين : لا ترسلوا اولادكم للمدارس ولو فعلتم سنأخذ حقائبهم ونعطيكم أكفانهم . ثم دمروا المصانع علي أمل ألا يكون للعمال العاطلين ملجأ غير أن يصبحوا مقاتلين. وحملوا معدات المصانع المنهوبة في شاحنات وباعوها في تركيا "
الحصار الغير مرئي
في الوقت الذي يتم فيه اخفاء الحصار الذي تفرضه القوات التي تقودها الولايات المتحدة عن طريق عدم تسميته بالحصار، يتم ببساطة تجاهل الحصار الذي يفرضه حلفاء واشنطون من تنظيم القاعدة
كتب روبرت فيسك " منذ ثلاث سنوات فقط " كان نفس المقاتلين الاسلاميين المحاصرين اليوم في شرق حلب " يحاصرون الجيش السوري المطوق في الجزء الغربي من حلب ويطلقون القذائف والهاون داخل القطاع الذي يسكنه مئات الالاف من المدنيين والواقع تحت سيطرة النظام " . وكتب فيسك بمرارة أن " الحصار الأول لم يستثير الكثير من الدموع من رجال وسيدات القنوات الفضائية " بينما " الحصار الثاني تسبب في محيطات من الدموع "
ويمكن ان نضيف الي حصار غرب حلب الذي فرض بالتنسيق مع تنظيم القاعدة والذي تم تجاهله " القصة التي لم تروي عن الحصار الذي دام ثلاث سنوات ونصف لقريتين شيعيتين صغيرتين في شمال سوريا "، وهما قريتي نبل والزهراء . هاذين الحصارين الذين فرضهما تنظيم القاعدة علي القريتين اللتين ظلتا مواليتين لحكومة القومية العربية في سوريا أديا لمقتل 500 من المدنيين علي الأقل، 100 منهم من الأطفال، بسبب الجوع والقصف بالمدفعية . " العالم لم يهتم بمعاناة هؤلاء الناس " وفضل أن يظل " يركز بشكل كبير علي المدنيين الذين يعانون من الحصار الذي تفرضه الحكومة في أماكن اخري " .
حطام احدي المباني في منبيج عقب قصف جوي للتحالف الامريكي
في 23 يونيه 2016 ( الاستوشيتد برس، تصوير دليل سليمان )
ثم تأتي القصة التي لم تروي عن الحصار المفروض منذ 13 عاما علي بلد برمتها، سوريا، وفرضته الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي . هذا الحصار الذي بدأت واشنطون بتطبيقه في 2003، بقانون محاسبة سوريا، ثم تلاه عقوبات الاتحاد الاوروبي، حجب الصادرات الغربية من كل المنتجات تقريبا من الوصول لسوريا وعزل سوريا ماليا
وأدخل هذا الحصار الكبير واسع النطاق سوريا في أزمة حتي قبل اندلاع الثورات في العالم العربي في 2011 - وهو ما يبين ان جهود واشنطون لاجبار الرئيس السوري بشار الاسد علي التخلي عن السلطة قد بدأت قبل فترة طويلة من الربيع العربي. وتتمثل جزور العداء الامريكي لحكومة الاسد في خطر أن تصبح " بؤرة الصراع القومي العربي ضد الوجود والمصالح الامريكية في المنطقة " - وهذه طريقة مختلفة للقول أن أهداف القومية العربية الرامية الي الوحدة والاستقلال والاشتراكية، وهي الأهداف التي توجه الدولة السورية، وهي أهداف تتعارض مع مطلب الولايات المتحدة في أن تصبح كل الدول خلف " قيادتها " الكونية - وهو ما عبرت عنه استراتيجية الامن القومي الامريكي في 2015 -
وفي ظل حرب الحصار الامريكي ارتفعت البطالة وأغلقت مصانع وارتفعت اسعار المواد الغذائية وتضاعفت اسعار الوقود . وأجبر " المسئولين السوريين " علي وقف توفير التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية في بعض المناطق في سوريا" . وبالفعل كان الحصار شاملا حتي أن مسئولين في الولايات المتحدة اعترفوا في 2011 أن " البلاد كانت بالفعل خاضعة للكثير من العقوبات مما أتاح للولايات المتحدة قليل من النفوز "
ومنعت حرب الحصار الذي فرضه الغرب علي سوريا " وصول معدات أمان الدم والأدوية والأجهزة الطبية والمواد الغذائية والوقود وقطع الغيار لمحطات الطاقة وغيرها الكثير " مما جعل باتريك كوكبيرن يقارن حملة تغيير النظام " بعقوبات الامم المتحدة علي العراق من 1990 الي 2003 " . فقد أدي فرض الحصار علي العراق - في الفترة التي كان يقود العراق قوميين عرب علمانيين ممن أزعجوا واشنطون بنفس القدر، إن لم يكن أكثر، من القوميين العرب العلمانيين في سوريا - الي مقتل 500 ألف طفل بسبب الجوع والمرض، وفقا للأمم المتحدة. ووصف أستاذين في العلوم السياسية هما جون مولر وكارل مولر الحصار أنه حملة حرب اقتصادية ترقي الي " عقوبات الدمار الشامل "، وتدمر أكثر من كل اسلحة الدمار الشامل التي استخدمت عبر التاريخ. وعندما انتهت حرب الحصار علي العراق في 2003 أستئنفت علي الفور في سوريا القومية العربية، مع نفس العواقب المدمرة
وجاء في تقرير داخلي للامم المتحدة تم تسريبه أن " عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي علي سوريا تسبب معاناة كبيرة للسوريين العاديين وتمنع وصول المساعدات الانسانية " . وذكر كوكبيرن أن " وكالات المساعدات التي نقل عنها التقرير قالت أنها لا تستطيع شراء الأدوية الأساسية أو المعدات الطبية للمستشفيات لان العقوبات تفرض حصارا اقتصاديا علي سوريا ككل وهو ما قد أدي ربما الي مقتل سوريين أكثر من الذين ماتوا بسبب المرض وسوء التغذية في الحصارات التي وصفتها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بجرائم الحرب "
وفي الوقت نفسه، جعل الحظر المدعوم من البحرية الامريكية علي موانيئ اليمن - وبمعني اخر الحصار - اليمن التي تعد من أفقر الدول في العالم العربي " علي حافة المجاعة " . وفي العام الماضي قدر أحد خبراء الامم المتحدة " أن 850 ألف طفل في بلد عدد سكانها 26 مليون " معرضين " لسوء تغذية حادة " كنتيجة للحصار المدعوم من الولايات المتحدة . وقال خبير الامم المتحدة ان هذا الحصار يرقي الي " التجويع المتعمد للمدنيين " وهو ما يشكل جريمة حرب . وكتب الصحفي البريطاني جوليان بورجر في العام الماضي : " 20 مليون يمني، حوالي 80 بالمئة من السكان، في حاجة ماسة الي الطعام والدواء والمساعدات الطبية " . وأدي الحصار الذي تدعمه بريطانيا ايضا الي خلق " كارثة انسانية " .
إن احتجاجات واشنطون القوية علي العواقب الانسانية للحملة السورية لتحرير شرق حلب من تنظيم القاعدة، بينما الولايات المتحدة وحلفائها يقتلون المدنيين من خلال الضربات الجوية والقصف المدفعي والجوع والامراض بسبب فرض الحصار في حملات تشنها لاستعادة اراضي داعش والثوار الحوثيين في اليمن والقوميين العرب العلمانيين في سوريا، يطرح سؤالا واضحا: لماذا هذه المعايير المزدوجة ؟ لماذا تنبض قلوب الغرب علي المدنيين المتضررين في الحملات لتحرير شرق حلب ولا تنبض علي المدنيين المتضررين من حملات الغرب لجعل الاراضي تحت سيطرة الولايات المتحدة وعملائها ؟
الاجابة باختصار هي ان تنظيم القاعدة هي رصيد للولايات المتحدة في حملات واشنطون لاسقاط القوميين العرب في دمشق، وبالتالي واشنطون تعترض علي العمليات العسكرية التي تهدد حليفها. وعلي الجانب الاخر، واشنطون تشعل أزمة انسانية تلو الاخري تحقيقا لاهداف سياستها الخارجية المتمثلة في الإزعان القسري لزعامتها للكون. وتتمثل قيمة جبهة فتح الشام بالنسبة لواشنطون في معارضتها المتصلبة لعلمانية حزب البعث القومي العربي الحاكم ورغبة جبهة فتح الشام في قبول حدود سايكس بيكو التي رسمتها بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الاولي. وهكذا اقتصرت عمليات فرع تنظيم القاعدة في سوريا علي العمل علي اسقاط العلمانيين في دمشق. وواشنطون لا ترغب في قبول سيطرة الاسلاميين المتشددين علي الدولة السورية، لكنها ترغب في العمل مع تنظيم القاعدة للقضاء علي عدو مشترك.
واشنطون تلعب نفس اللعبة مع داعش عن طريق ضبط حملتها العسكرية ضد الاسلاميين الاشرار لمنعهم من تهديد السعودية والعراق واستخدامهم في الوقت نفسه كأداة لاضعاف دولة سوريا القومية العربية . وركزت الضربات الجوية الامريكية علي العراق، كما أوردت صحيفة وول ستريت جورنال. وأوضحت الصحيفة أن الحرب الجوية تركز علي أهداف داعش في العراق لأن " الضربات الجوية ضد داعش في سوريا حتما ستساعد نظام بشار الاسد عسكريا " . وبالمثل امتنعت فرنسا " عن قصف الجماعة في سوريا خشية دعم " الحكومة السورية . وركز البريطانيين ايضا حملاتهم الجوية الكاسحة علي أهداف لداعش في العراق وأجروا 10 بالمئة من ضرباتهم الجوية علي مواقع للتنظيم الاسلامي في سوريا
ونشرت النيويورك تايمز أن " الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة في سوريا تركز الي حد كبير علي مناطق خارج سيطرة الحكومة لتجنب مساعدة قائد طالب الرئيس اوباما بخلعه " . وبالتالي كانت الضربات الجوية للتحالف الامريكي علي داعش في سوريا محدودة ومجردبادرة رمزية . ولخص فيسك الحرب المصطنعة علي داعش في سوريا بتهكم لازع قائلا : " اذن فنحن دخلنا حربا في سوريا ضد داعش - باستثناء بالطبع عندما تقاتل داعش نظام الاسد، وفي كلتا الحالتين لم نفعل شيئا. "
وتماشيا مع النهج الامريكي في استخدام تنظيم القاعدة كمخلب قط ضد القوميين العرب العلمانيين في سوريا، فإن أي عملية عسكرية لصد حملة تنظيم القاعدة عن اسقاط حكومة الاسد هي ضربة لأهداف السياسة الخارجية الامريكية. وأولئك الذين يناشدون الولايات المتحدة الانضمام لروسيا للقضاء علي المليشيات الاسلامية في العالم الاسلامي لا يفهمون مقصد الولايات المتحدة. واشنطون تمقت الجهاديين فقط عندما يهددون الولايات المتحدة وحلفائها. وعدا ذلك الولايات المتحدة تتبني الاسلام المسلح كأداة مفيدة تستخدمها ضد الحكومات العلمانية التي ترفض الخضوع للدكتاتورية الدولية للولايات المتحدة
ومن السهل ان ندين الحملات العسكرية لتحرير المدن التي يحتلها العدو، نظرا للأضرار الحتمية التي يتعرض لها غير المقاتلين . لكن الصعوبة الأكبر هي في اقتراح بديل واقعي غير استخدام القوة لطرد الأعداء من المناطق الحضرية . الوصول لحل وسط والمفاوضات ؟ الوصول لحل وسط يعني بالنسبة للولايات المتحدة اسقاط القوميين العرب وتسليم السلطة لدميات للولايات المتحدة - وهذا ليس حلا وسطا بل انجازا للاهداف الامريكية. واشنطون غير مهتمة بالتوصل لحل وسط . وقد أعلنت ان بإمكانها ان تقود العالم وستقوده، وهذا معناه انها مصممة علي وضع القواعد . وحتي لو كان لدي واشنطون نية للتوصل لحل وسط لماذا يجب علي الولايات المتحدة ان تلعب دورا في تقرير المستقبل السياسي لسوريا ؟ لن نكون ديمقراطيين حقيقيين ما لم نكافح من أجل الديمقراطية في العلاقات الدولية . ولن يكون لدينا ديمقراطية في العلاقات الدولية اذا تدخلت الولايات المتحدة وحلفائها في الدول الاخري، واذا جندت الجهاديين لتنفيذ أعمالهم القذرة ليكون لهم القول الفصل في الفترة الانتقالية، بمجرد ان يخلق حلفاء المجاهدين كارثة في سوريا
والأكثر من ذلك هو انه حتي لو خلصت دمشق وحليفها الروسي الي ان العواقب الانسانية للشروع في طرد تنظيم القاعدة من شرق حلب عواقب وخيمة للغاية لو فرضت حصارا، فان هذا لن يؤدي إلا الي تأخير يوم الحصار . فلو سلم القوميين العرب العلمانيين في سوريا السلطة وفقا لتسوية يتم التوصل اليها بمفاوضات امريكية، فإن الولايات المتحدة، التي ستعمل من خلال عميلها السوري الجديد ستقوم بالترتيب لحصار المدينة وسحق حلفائهم الاسلاميين في السابق والذين لن يسمح لهم بتحدي الدمية الامريكية الجديدة في دمشق . وحينها فقط سيقال علي الحصار عملية انقاذ، وسيتم اغفال صفة " ثوار" وتحل بدلا منها صفة " الارهابيين الاسلاميين المتطرفين "، وسيتطرقون الي الأزمة الانسانية التي ستعقب الحصار ثم يتجاهلونها بقليل من التصريحات ثم يهللون للقيادات العسكرية الامريكية الذين زبحوا التنين الاسلامي
في 19 اكتوبر واجه صحفي سويسري الاسد بسؤال عن القتلي المدنيين في شرق حلب . وقال الصحفي للاسد : " ولكن بالفعل هناك مدنيين أبرياء يموتون في حلب " . فأجاب الأسد : " كل الهيستريا في الغرب بشأن حلب ليس لان حلب محاصرة . فالارهابيين كانوا يحاصرون حلب طوال الاربع سنوات الماضية ولم نسمع سؤالا يطرحه الصحفيين الغربيين عما يحدث في حلب ولم نسمع تصريحا واحدا من المسئولين الغريين بخصوص أطفال حلب . والان يسألون عن حلب لان الارهابيين في وضع سيئ " . الجيش السوري متقدم " والدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة وحلفائها فرنسا وبريطانيا، " يشعرون أنهم خسروا " الكروت الاخيرة للارهابيين في سوريا " .
بقلم الكاتب الكندي ستيفن جوانس
ترجمة اشرف محمد عبد العزيز
https://gowans.wordpress.com/
http://www.herald.co.zw/our-sieges-and-theirs/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق