الأحد، 12 فبراير 2017

صعود وسقوط عميل سوري للسي اي ايه



                         

 صعود وسقوط أحد قادة الثورة السورية المدعومين من الولايات المتحدة الامريكية

مرت فترة كان فيها " أبو أحمد "، الرجل الضخم الذي به عرج كبير، يستقبل المعجبين في المقهي المليئة بالدخان في جنوب تركيا. كان قادة المعارضة السورية يلجأون اليه طلبا للعون. وكان ضباط المخابرات الاجنبية يطلبون رأيه. وعندما كان يعبر الي داخل سوريا كان يحمل حقائب ممتلئة بالدولارات من فئة المئة دولار ليسلمها الي المقاتلين الثوار. وإستلم رفقاؤه صواريخ مضادة للدبابات، تم تسليمها سرا علي الحدود

كان بعض الثوار يسمونه رجل السي اي ايه في سوريا. والان يناضل من أجل أن يرد أحد علي مكالماته التليفونية. وتذكر قائد اخر من قادة الثورة المدعومين من الولايات المتحدة قائلا : " كنا نقول نكتة، ‘ لو أردت شيئا من باراك اوباما اتصل بأبو أحمد, . لو أراد أحد من المعارضة ان يلتقي الامريكيين يذهبون اليه. والان ذهب أشخاص مثلنا الي مزبلة التاريخ " .

وبعد عامين من عمله " وسيطا " للسي اي ايه، يوزع الاسلحة ويخطط العمليات العسكرية في سوريا، ألقي أبو أحمد في السجن. وبعد اطلاق سراحه أجبر علي الاختباء مؤقتا، ثم أصبح عارا في عيون رفاقه الثوار. ولأسباب أمنية، طلب تغيير اسمه وأسماء اخرين شاركوا في مناقشة قصته، وطلب الامتناع عن ذكر مكانهم بشكل دقيق

قصة صعوده وسقوطه تعطينا فكرة عن كيف كانت السي اي ايه تعمل ضمن حدود سياسة الرئيس اوباما الفاترة الخاصة بسوريا. وتكشف هذه القصة كيف فاقمت المنافسات بين البيروقراطيين في الولايات المتحدة - بل والأهم منها تزايد التباعد بين واشنطون وحليفتها تركيا - من الحرب السورية

 *** 

تحول الصراع السوري خلال الستة سنوات الماضية من مظاهرات احجاجية في الشوارع ضد بشار الأسد الي حرب أهلية وحولت معها المنطقة والعالم. أربعة من الخمسة أعضاء الدائمين في مجلس الأمن قصفوا الأراضي السورية. وصبت القوتين الاقليميتين، ايران والسعودية، مليارات الدولارات داخل ما أصبح حربا بالوكالة. واستغلت جماعة داعش الجهادية الفوضي لتصدير العنف حول العالم. وشجع اللاجئون السوريون الذين اغرقوا اوروبا موجة الشعبوية للجناح اليميني في كل انحاء القارة الاوروبية والولايات المتحدة

وورث الرئيس دونالد ترامب، الذي دخل واشنطون علي نفس موجة المشاعر الشعبوية تلك، المستنقع السوري. وهو يصور الصراع السوري أنه مفاضلة بين داعش والأسد

والواقع أكثر تعقيدا من ذلك، ولو كان لهذه الرؤية مزيدا من المصداقية اليوم، فهذا راجع جزئيا الي الخيارات التي اتخذتها ادارة اوباما

الاصرار علي عدم التورط في الحرب في سوريا، بالاضافة الي الاعتراف بأهميتها الاقليمية، جعل واشنطون تتردد - وهو الموقف الذي سيثبت علي المدي الطويل أنه موقف استشكالي مثلما هو الحال في حالة التدخل العسكري الكامل

ويجسد السوريين من أمثال أبو أحمد عواقب هذه المعضلة. ففي 2013 انضم الي البرنامج السري للسي اي ايه الذي وضع لنقل الاسلحة والاموال الي الثوار المعتدلين. وراهن هو وقادة عسكريين سوريين اخرين ان التعامل مع الولايات المتحدة سيجلب لهم في نهاية المطاف دعما يشابه الدعم الذي ساعد الثوار الليبيين علي اسقاط معمر القذافي في 2011 . وخسر الرهان بشدة

ويستيقط أبو احمد في هذه الايام في الساعة 7 صباحا، فهو لا يزال ملتزما بالروتين الذي تدرب عليه منذ فترة طويلة بصفته ضابط في الجيش. وهو يقود سيارة بالية استعارها ليصل بها الي المنطقة الصناعية في المدينة الواقعة جنوب تركيا، علي الحدود السورية. ويلوح لأطفال من اللاجئين السوريين الذين يغسلون السيارات بخراطيم المياه ويسأل أصحاب الجراجات ما اذا كانوا يحتاجون الي اصلاح سياراتهم. ثم يتوجه الي وسط البلد حيث يقوم ببعض الأعمال الحسابية في بضعة شركات محلية - أو أي عمل ليلبي إحتياجاته.

 قال لي خلال موسيقي البوب التركية الصاخبة وقرقرة الشيشة في مقهي قريب من منزله : " كنت اعتقد ان امريكا هم من تحكم الكون. واذا سألتني هل كنت مخطيئ؟ نعم، كنت مخطيئ. " .

" ما كان يشغلني هو اقامة علاقة طيبة مع الامريكيين. اعطوني السلاح فاحضرته الي سوريا. ولم يكن يشغلني سواء كان الاتراك لا يحبون الامريكيين او الامريكيين لا يحبون الاتراك. لم يكن لي علاقة بذلك. ومع الأسف الأمور لا تسير علي هذا النحو " .

لم يتبقي لواشنطون غير قليل من الخيارات الجيدة في سوريا، كما تبين من سقوط اخر المعاقل الحضرية للمعارضة في حلب مع اقتراب نهاية 2016 . فلم يكن انتصار الاسد وحليفته روسيا مجرد مأساة انسانية للمدنيين الذين قصفوا وطردوا من منازلهم، بل كان رمزا لتراجع النفوز الامريكي في المنطقة . وهمشت الجهود الدبلوماسية لانهاء الحرب التي تقودها موسكو وأنقرة واشنطون

وكان اوباما ومساعديه قد دافعوا عن موقفهم في الشرق الاوسط باعتباره قطيعة مع تركة امريكا المكلفة في التدخلات العسكرية المرتجلة - خصوصا غزو جورج بوش للعراق. لكن قصة ابو أحمد تبين لنا أن حتي التدخلات العسكرية المحدودة قد تكون مرتجلة ايضا - ويدفع فيها الحلفاء المحليين الثمن الأكبر.

وعبر مسئولين امريكيين سابقين اجرينا معهم لقاءات خاصة بهذه القصة عن احساسهم بخيبة الأمل من أنهم كانوا دائما يلعبون لعبة في سوريا، وهم يراقبون الوزارات الامريكية المختلفة تتشاجر حول أهداف صيغت بطريقة غامضة.  ويقول بعضهم انهم لم يتمكنوا طوال سنوات من فهم سياسة اوباما علي الاطلاق

الثوار والبلوماسيين في المنطقة علي السواء يشاطرون نفس مشاعر الغضب . وقال دبلوماسي من المنطقة : " الناس لديهم هذا المفهوم ان الولايات المتحدة لم تكن مشاركة بشدة ( في سوريا ) لكن هذا غير حقيقي - لقد كانوا مشاركين وبأدق التفاصيل لفترة في أماكن مثل حلب عندما بدأ ( برنامج السي اي ايه ). مشكلة السياسة الامريكية في سوريا كانت نفس المشكلة كما كان الحال دوما : كلها تكتيكات ولا يوجد استراتيجية . كانت فوضي " .


***

رغم جو البهجة والضحك من القلب، الدوائر التي تحيط بعيني أبو أحمد داكنة مثل ندبات القذيفة التي أصابت ساقيه. وخلال اجتماعاتنا كان يرتدي نفس التيشيرت يومين علي التوالي ويتناول 1600 ملي جرام من عقار ايبوبروفين ليتمكن من السير كل يوم.

من السهل ان تري لماذا انجذب المسئولين الامريكيين نحوه. فخلافا للتدين المتزايد لدي بعض الثوار المكتئبين وقلقهم الراسخ من التدخل العسكري الامريكي، أبو أحمد يحب ممازحة " أصدقاءه الأجانب " . ويصف نفسه أنه صريح ولا يتسامح مع الفساد ولا يثق في الاسلاميين - أو حسب قوله " أي شيئ له ذقن " . ويسميه ثوار اخريين اجرينا معهم لقاءات للتأكد من قصته بسخرية أنه " علماني متطرف " .

وقال الدبلوماسي : " اذا كان لديك سؤالا عن معركة يود أن يقوم بها الثوار، سيقول أبو أحمد علي الفور كم عدد الطلقات التي ستحتاجونها وكم عدد المقاتلين الموجودين هناك بالفعل وما الطريقة التي سيتبعونها. وأكلها الامريكيين كلها " .

عندما خرج المتظاهرين السوريين الي الشوارع في 2011 للتظاهر ضد عقود من حكم عائلة الأسد، كان لدي أبو أحمد وظيفة مريحة كضابط جيش في وسط سوريا. ثم بدأت قوات الأمن اطلاق النار علي المتظاهرين. وشكل مزارعين ومنشقين عن الجيش وتجار محليين جماعات تحولت الي وحدات مسلحة لقتال قوات الأمن، واندلع تمرد مسلح واسع النطاق

وانشق أبو أحمد وانضم للثوار في المناطق التي يسيطرون عليها في شمال سوريا حاملا معه مسدس. ويقول : " كنت ساذجا. كنت أعرف بالكاد كيف أطلق النار من مسدس. لم أكن أهتم علي الاطلاق بالتدريبات علي الأسلحة "

لكنه كان يملك مهارات أخري ستجذب اليه فيما بعد الشركاء الامريكيين.  كانت لديه مهارات في اللوجستيات والتكتيكات. يقول : " كنت أستطيع ان أقول كم عدد المقاتلين الموجودين علي الأرض بالفعل وكم من الذخيرة سيستخدمون - والأهم، كم عدد الرجال الذين سيقاتلون بالفعل. " .

ويقول أبو أحمد أنه كان يحسب إستخدام الأسلحة المخزنة لدي القادة العسكريين بناءا علي التقييم الذي يقدمه رجاله وأسلوب قوات الأسد في الهجوم . وقال وهو يرفع تليفونه الذي كان يلعب عليه لعبة الشطرنج أثناء اجراء الحوار معه : " الأمر بالنسبة لي كلعبة الشطرنج. انا أحب لعبة الشطرنج " . 

وفي 2012 جرح أبو أحمد في غارة جوية وسقط فاقدا للوعي لمدة 10 أيام. واستيقط في المستشفي علي قضيب حديدي في ساقه. وتتذكر زوجته أم أحمد، وهي امرأة رشيقة تضع أدوات تجميل باحتراف شديد الإتقان، وهي تجلس معه ليل نهار، تحاول مساعدته علي الوقوف أو تناول الطعام أو الكلام. وقالت : " ولما جاء مجموعة من المقاتلين لزيارته وقف علي الفور وتحدث وضحك معهم.وعندها أدركت أنه من الان فلاحقا سنكون ثلاثة مرتبطين بعلاقة : أنا وهو والثورة " .

***

ثم عاد أبو أحمد لاحقا بعد شهور قليلة الي أرض معركة اختلفت اختلافا جزريا. عجزت جماعات الجيش الحر المتعددة الأطياف أن تصبح قوة لها أي شبه بما يطمح اليه اسمها. فقد أصابت عدوي الفساد الكثير من الجماعات. وأصبحت الجماعات الاسلامية في الصدارة بدعم حلفاء الولايات المتحدة مثل قطر وتركيا، اللتان اعتبرتهم العملاء الأكثر تنظيما وأكثر جدارة بالثقة من نظرائهم الذين لهم دوافع أيدولوجية أقل

وعزز هذا المناخ، بالاضافة لسياسة الحدود المفتوحة التي اتبعتها تركيا، صعود الجهاديين المسنودين من المقاتلين الأجانب. وتمكنت جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وجماعة أخري منشقة عنها، الدولة الاسلامية في العراق والشام ( داعش )، من تحقيق قدرات عسكرية متفوقة، وطورتا برنامجا ايدولوجيا للهيمنة. ( جبهة النصرة غيرت اسمها منذ ذلك الحين مرتين، واخر اسم أطلقته علي نفسها مؤخرا هو جبهة تحرير الشام، وتقول انها قطعت علاقتها بتنظيم القاعدة، ومع ذلك لا يري ذلك إلا القليلين )

وقال أبو أحمد وهو يهز رأسه : " كنا أغبياء جدا. كنت غبيا جدا. كيف كنت أفكر ؟ كنت اعتقد ان النظام سيسقط وسنعود من حيث بدأنا. وعندما عدت وجدت جبهة النصرة وداعش تنتشران ولديهما كل تلك الخطط. وعندها علمت أننا سنحتاج في نهاية المطاف الي القيام بعملية مضادة ضد هؤلاء الأشخاص أيضا " .

بعض قادة الجماعات الاسلامية بدأوا يشكوا في أبو احمد بسبب انتشار شائعات أنه لا يصلي. فلما خاف بعض من رفاقه من القادة العسكريين علي سلامته أرسلوه عبر الحدود ليساعد في المجهودات الحربية من تركيا. والتقي أبو أحمد في هذه المنطقة الحدودية التي اصبحت تعج بالنشاط مؤخرا، حيث تمتلئ مدنا كانت هادئة في السابق مثل كيليس وغازي عنتاب وهاتاي بعمال الإغاثة الانسانية، بضابط مخابرات سعودي يسعي لتنسيق عملية يقوم بها الثوار لطرد داعش.   

وفي أواخر 2013 كانت هذه الجماعة الجهادية تهدد الاراضي التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا وتتوسع بثبات في دولة العراق المجاورة. كان ابو احمد ينسق بين السعوديين والثوار الذين تمكنوا في أوائل 2014 من طرد داعش من محافظة إدلب في شمال غرب سوريا.

وكانت تلك هي الفترة التي تلقي فيها اتصالا تليفونيا من أعضاء في البرنامج السري للسي اي ايه المتواجدين في مدينة أدنة الواقعة علي الساحل التركي. إلتقي به ثلاث رجال في أحد المطاعم. وتذكر قائلا : " كانوا لطيفين فعلا. كانوا يعلمون كل شيئ بالفعل عني " .

رفضت السي اي ايه التعليق علي قصة أبو أحمد، لكن مصدرا من جهاز المخابرات متواجد في واشنطون أكد أن أبو أحمد كان يعمل مع وكالة المخابرات. لكنه قلل من شأن أهميته قائلا أنه كان مجرد " وسيط سوري " . وأكد لنا ثوار ونشطاء ودبلوماسيين - رفضوا جميعا ذكر أسماءهم - قصة أبو أحمد وتفاصيل علاقته بالسي اي ايه.

قدم الامريكيين دعوة لأبو أحمد للانضمام لغرفة العمليات السرية التي كانوا يشكلونها مع حلفائهم ومنهم بريطانيا وفرنسا والاردن وقطر والسعودية وتركيا لدعم الثوار المعتدلين. وكان مركز العمليات المعروف باسم مركز العمليات المشتركة ( الموم ) علي طراز مركز العمليات المشتركة الذي أقيم في الاردن قبلها بعام.

وتعرضت العملية منذ البداية لعقبات كبيرة . الحدود التركية مع سوريا التي تبلغ 800 كيلو متر يصعب السيطرة عليها. علاوة علي أنه بحلول 2014 ترسخ دور الجهاديين والعلاقات بين الداعمين الأجانب والعملاء السوريين بشدة فأصبح شبه مستحيل السيطرة علي تدفق الأسلحة.

وقال نوح بونسي، من مجموعة الأزمات الدولية، وهي من المنظمات غير الحكومية : " طوال فترة هذا البرنامج كانت توجد خلافات كبيرة بين الدول، بل وحتي داخل الحكومات. هل فشل الثوار فشلا زريعا ؟ بكل تأكيد. هل الدول الداعمة كانت منقسمة مثلها مثل الثوار ؟ بكل تأكيد " .

الكثير من الثوار كانوا يعتبرون أن مركز العمليات المشتركة في تركيا ( الموم ) ليس إلا موضع قدم للمخابرات الاجنبية داخل المعارضة . لكن البعض الاخر، مثل أبو أحمد، كان لديهم أمل أن يقوي من سيطرة الثوار علي شمال سوريا وأن ضمن أن يكون لهم موقفا أقوي في مفاوضات السلام.

وكان مقر العملية في فيلا مجهولة في جتوب تركيا، حيث كان القادة العسكريين الثوار يجتمعون بضباط المخابرات حول طاولة بيضاء طويلة لإقتراح خطط المعارك وممارسة الضغوط للحصول علي الأسلحة.

الثوار الذين يتم الموافقة عليهم باعتبارهم " معتدلين " أيدولوجيا يحصلون علي راتب شهري حوالي 150 دولار للمقاتل و 300 دولار للقائد العسكري. وتذكر أبو أحمد قائلا : " كانوا لا يقولوا لنا أبدا الي أين سنذهب. كانوا يضعونا في سيارة مغطاة بالستائر. كان أشبه بفيلم جاسوسية. لكن هذا كان أقرب الي المزاح، فقد كنا قد تعلمنا الطريق مع مرور الوقت. " .

  في البداية كان الجو يعج بالمرح. كان الاتراك يسمحون للقادة العسكريين بالنوم في المبني الذي يحتوي علي مطبخ وبه طباخ، لكي يتمكنوا من الانتهاء من جلسات الليل المتأخرة أثناء دراسة الخرائط والخطط. وبعد فترة قصيرة أصبحت بيروقراطية الموم تشكل مشكلة للثوار. فالمعارك قد تبدأ خلال ساعات بينما قد يستغرق المندوبين الاجانب أحيانا أسابيع ليتفقوا علي الخطط وليحصلوا علي الموافقات علي تسليم الامدادات مثل الزخيرة والمواد الطبية والأحذية العسكرية. ولجأ الثوار للاعلام ليطلعوه علي قصص بخل الموم

لكن بعض شخصيات المعارضة ودبلوماسيين يرون أن المشكلة كانت علي العكس من ذلك . قالت شخصية من المعارضة قريبة من القادة العسكريين المدعومين من الموم : " الموم أصبحت أداة لإفساد الجيش السوري الحر، ليس لأنهم كانوا يعطونهم القليل بل لأنهم كانوا يعطونهم أكثر من حاجتهم " .

وقال أن القادة العسكريين اعتادوا ان يضخموا من أعداد قواتهم ليضعوا في جيوبهم رواتب إضافية، وبعضهم كان يخزن الأسلحة ليبيعها في السوق السوداء. وحتما وصل الكثير منها في نهاية المطاف الي يد داعش. وجماعات أخري عقدت اتفاقات مع جبهة النصرة لتتحاشي اعتدائها عليها. " وبالطبع السي اي ايه كانت علي علم بذلك، وكل من كان في الموم كان علي علم. كان هذا هو ثمن عقد الصفقات التجارية " . 

واتهم أبو أحمد صراحة زملائه من القادة العسكريين بقيامهم بتلك الأنشطة التي قال عنها أنها كانت تعجب الأمريكيين. وتذكر قائلا : " كنت أقول لهم هذا الشخص يزعم أن لديه 300 مقاتل لكنه ليس لديه غير 50 مقاتل. وهذا الشخص يفعل كذا وكذا. فكنت أسبب إحراجا للجميع. السوريين كانوا يشعرون بخيبة الأمل وكانوا يقولون: إنه عميل أمريكي ومخبر - كيف يتحدث عنا بهذه الطريقة؟ لكن تفكيري كان أنهم كانوا يسرقون من ثورتنا " .

من الصعب التحقق ما اذا كان أبو أحمد نظيفا كما يدعي، لكن وضعه الحالي يتناقض مع وضع الكثيرين من القادة العسكريين الثوار الذين يملكون شققا سكنية كبيرة في تركيا ويستقلون سيارات جديدة ويملكون أجهزة أيفون أحدث موديل.

أبو أحمد وزوجته وطفلاهما يعيشون في شقة صغيرة مع والديه وأسرة أخيه. وأحيانا يسرح بخياله في مرارة متأملا كيف كانت ستصبح حياته اذا تواطأ مع قادة عسكريين اخرين ليحصل علي حصة لنفسه. وقال : " عندها لن أكون خائنا . وكان الناس سيرفعون صورتي. وكنت سأحصل علي أفضل السيارات. كنت استطيع أن أفعلها بهذه الطريقة لكني لم أفعل. وبدلا من ذلك تعرضت للزل " . 

وربما كان تزايد المنافسات بين الداعمين الاجانب للموم أكثر ضررا من الفساد. فمع بداية الانقسامات تحركت كل قوة الي دعم القادة العسكريين المفضلين لديها

 ويقول أبو عمر، وهو صديق لأبو أحمد وقائد عسكري من الثوار المدعومين من الولايات المتحدة ( وهو ليس اسمه الحقيقي ) : " أي طفل صغير يستطيع دخول غرفة الموم ويستطيع ان يقول من هو الشخص الذي تفضله الولايات المتحدة ومن الذي يريده الاتراك ومن الذي يفضله السعوديين. أصبحت الموم الوجه القانوني للتغطية علي كل الدعم الاضافي الذي يعطوه لتلك الجماعات من خلف ظهور بعضهم البعض " .

وأسوأ خلاف قد وقع كان بين الولايات المتحدة وتركيا. زادت التوترات بينهم بعد ان استولت داعش علي مدينة الموصل ثاني أكبر مدينة عراقية في يونيو 2014 وقيامها بحرب خاطفة في سوريا والعراق. وبدأت واشنطون بجملة جوية بقيادة البنتاغون ضد داعش، إلا أنها اعتمدت علي ميليشيات كردية سورية تعرف باسم وحدات الحماية الكردية ( واي بي جيه YPG) بدلا من اعتمادها علي الثوار

ووجد البنتاغون في الوحدات الكردية شركاء لهم جاذبية لأنهم لن يقلقوا من اختراق الاسلاميين لهم - ولم يخوضوا حربا علي الأسد، علي عكس الثوار . لكن أنقرة كانت ساخطة. فقد كانت تقاتل التنظيم الأم للوحدات الكردية، حزب العمال الكردستاني ( بي كيه كيه  PKK ) في حرب دامت اربع عقود، بسبب طموح الأكراد في الحصول علي الحكم الذاتي في جنوب شرق تركيا، ولأن أنقرة اعتبرت ان تعاظم منطقتهم علي الحدود تهديدا لها

وقال بونسي، من مجموعة الازمات الدولية : " لقد صعقت من مدي إخلاص المسئولين الامريكيين والاتراك في عدم فهمهم لبعضهم البعض. فأحيانا لا يفهم المسئولين الامريكيين بصدق لماذا يشكل دعم الوحدات الكردية خطورة علي تركيا" .

" وبالمثل، المسئولين الاتراك لم يبدو عليهم انهم فهموا مدي إنزعاج الامريكيين من عجزهم عن إضعاف قدرات الجماعات الجهادية التي تستخدم حدودها. كانوا يتحدثون من خلف ظهور بعضهم البعض " .

وشعر الثوار الذين تدعمهم الولايات المتحدة أنهم عالقين في المنتصف. ففجأة اعتبرتهم تركيا التي تستضيفهم والجماعات الاسلامية التي تدعمها " خونة " . وبدأ أبو أحمد يكره زيارة الموم . وقال مازحا : " كنت عالقا بين أبوين متخاصمين " .

وتذكر اجتماعا سأله فيه مسئولا تركيا بلهجة حادة، أمام نظرائه الامريكيين، لماذا كانت الضربات الامريكية ولا تساعد الثوار أمثاله. وجلس مسئولي السي اي ايه ملتزمين الصمت ثم تدخلوا قائلين ان الضربات وجهها البنتاغون، وهو كيان منفصل.

وقال أبو عمر أن شرح غموض السياسة الامريكية للثوار المحتقنين، الذين زاد تعاطفهم بالفعل مع الاسلاميين، لا سيما بعد استيلاء الوحدات الكردية علي عدة مدن كانت خاضعة لسيطرة الثوار بالقرب من قاعدته العسكرية في شمال غرب سوريا في شتاء 2016 ، أصبح أكثر صعوبة.

وقال : " لدي 57 مقاتل قتلوا في خط الجبهة، ومثلهم مرتين فقدوا أطرافهم. فكيف أشرح لهم أن الوحدات الكردية تعني دعم البنتاغون ؟ وأن الموم يعني دعم السي اي ايه ؟ هؤلاء أولاد من ريف سوريا - هم لا يفهمون هذه الأمور " .

ووجد قادة عسكريين مرتبطين بالسي اي ايه مثل أبو أحمد وأبو عمر صعوبة أكبر في العمل من داخل تركيا. فعندما حاول أبو عمر تجديد تصريح الاقامة أخبروه انه علي قائمة المراقبين أمنيا. وعندما طلب من الامريكيين ان يثيروا الموضوع مع المسئولين الاتراك قالوا له ان المسألة خرجت عن سيطرتهم

***

وبلغت مشكلات أبو أحمد حد الهزل. فيقول أنه في بدايات الموم كان المسئولين الاتراك يرافقوه علي الحدود لعقد الاجتماعات. وبعد خلافهم مع الامريكيين قالوا انهم لن يواصلوا تقديم العون. فبدأ يدفع الأموال للمهربين ليصل الي تركيا لعقد الاجتماعات الدولية.

 وتذكر وصوله ذات يوم في الوقت المناسب ليري أحد القادة العسكريين المفضلين لدي تركيا يقفز داخل سيارة متجهة الي احدي الاجتماعات المنعقدة . وقال أبو أحمد : " لوح لي وقال:باي . فوقفت هناك أحملق " . وعندما اشتكي للامريكيين ضحكوا وقالوا مرة اخري ليس في وسعهم عمل شيئ

وفي تلك الفترة شكل الثوار تحالفا جديدا أسموه الجبهة الشامية، سعيا الي تنظيم قواتهم المنقسمة. وكانوا يأملون أن يقلل هذا التحالف من حرب الشد والجذب بين الولايات المتحدة وتركيا. وبدلا من ذلك زادت الأمر سوءا، وأجبر التحالف علي الخروج من البرنامج السري.

وقال قائد ثوري اخر من حلب طلب عدم ذكر اسمه : " امريكا كانت تضغط علينا بسيطرتها علي مساعدات الموم. وتركيا كانت تضغط علينا بسيطرتها علي المنافذ الحدودية. انهما ليسوا حليفين. انهما كاذبين. عندما يكون لديك حلفاء مثل حلفاء السوريين فأنت لست بحاجة الي أعداء . " .

وفضل أبو أحمد تقديم استقالته علي الانضمام للجبهة الشامية ولكن سرعان ما طلب منه الامريكيين ان يكون مستشارا لهم وقدموا له راتبا شهريا 1000 دولار. وأصبح معروفا لدي السوريين بأنه هو الشخص الذي يرتب الاجتماعات. وكان منتقديه يصرون علي انه كان يساعد السي اي ايه في التخطيط لمحاولات الاغتيال الفاشلة ضد قادة جبهة النصرة وإضعاف الجماعات المدعومة من تركيا. وينكر أبو أحمد اشتراكه في أي مؤامرة، لكنه اعترف انه عمل علي إغراء بعض الجماعات لتعود وتنضم الي الموم

وفي صيف 2015 دشنت الولايات المتحدة برنامج " التدريب والتسليح " التابع للبنتاغون لاختيار المقاتلين الثوار. وكلف هذا البرنامج 500 مليون دولار وفشل فشلا زريعا. يقول أبو أحمد : " لقد صددمت. جاء البنتاغون وبدأ عقد اجتماعات مع أشخاص في مدينة غازي عنتاب وإختاروا أشخاص كانت السي اي ايه والموم يرونهم فاشلين " .

وبعد ان اختطفت جبهة النصرة المجموعة الاولي من مقاتلي برنامج التدريب والتسليح، راودته الشكوك ان الوزارات الامريكية لا تتقاسم المعلومات. ثم استسلمت المجموعة الثانية التي أرسلت تحت قيادة قائد عسكري جديد لجبهة النصرة .

ويقول : " وعندها أدركت ان الامريكيين يعملون في اتجاهين متضادين. " . وبدأ يسأل الدبلوماسيين الاجانب ليشرحوا له النظام السياسي في امريكا. فحدثوه عن الكونجرس والبيت الابيض والأفرع المخابراتية والعسكرية المختلفة. وقال ضاحكا : " اذا سار اوباما بهذه الطريقة وسار اعضاء الكونجرس بهذه الطريقة وقال الناس علي الأرض : هذا يصلح وهذا لا يصلح. فهل سيتخذ قرار بهذه الطريقة ؟  ربما هذا هو حال الافراط في الديمقراطية" .

  وفي الوقت نفسه زاد الخلاف التركي الامريكي اثناء مناقشة احتمال فرض حظر جوي شمال سوريا. وكان أحد نقاط الخلاف في هذه الخطة الفاشلة التي حوت العديد من النقاط حول من سيكون وسيطهم في سوريا. السي اي ايه كانت تريد أبو أحمد، وفقا لما ذكره لنا العديد من القادة العسكريين. الاتراك كانوا يريدون شخصا مقربا منهم.

ويقول أبو أحمد أنه قبل يوم من اجتماع الموم الذي ساده الخلافات لمناقشة هذه المسألة جاءت سيارة شرطة تركية أمام منزله . فخاف ودس كل أمواله في جيوبه عندما دق ضباط الشرطة علي الباب

وبالقبض عليه تكون دولة عضو في حلف الناتو ألقت القبض علي أحد الحلفاء المحليين لواشنطون. وتنقل أبو أحمد طوال ساعات بين مختلف المقرات الأمنية . ويقول : " طلبوا مني أن أخبرهم لماذا قبضوا علي ؟ فقلت لهم انا لا أعرف مثلكم. انتم من أحضرتموني الي هنا وانتم من يفترض ان تقولوا لي ما تهمتي " .

 ***

وفي النهاية ألقي به في سجن قريب، حيث كان ينتظر طوال أيام بينما زوجته واصدقاءه كانوا يجرون اتصالات هاتفية محمومة بالمسئولين الامريكيين. ولم تتمكن السي اي ايه من تأمين الافراج عنه. ويقول المصدر المخابراتي المقيم بواشنطون : " حاولوا مساعدته للافراج عنه، لكن ليس من المرجح ان تكون محاولاتهم قد صعدت للمستويات العليا نظرا لأنه كان يساعد في عملية للسي اي ايه يفترض انها سرية " .

وسرعان ما أدرك أبو أحمد أن السبيل الوحيد للخروج هو ان يوافق علي ترحيله الي سوريا - وهو ما يعني في الحقيقة حكما بالإعدام نظرا لكثرة الاسلاميين الذين يكرهونه. لكنه وقع علي الأوراق المطلوبة وألقي به علي الحدود. " استخدمت الاموال التي معي ودفعت اموالا لاحد المهربين لأتسلل عائدا الي تركيا " .

وإختبأ في منزل علي الحدود لأكثر من شهر. وفي النهاية وعده الأتراك أن يتركوه وشأنه طالما سيتوقف عن العمل مع الامريكان والثوار. كان قلبه ينفطر لكنه قبل الشروط، ومن حينها وهو يعيش علي هامش المجتمع السوري في تركيا، معتمدا علي أصدقاء مثل أبو عمر يقرضوه المال.

وفي أمسية من أمسيات الصيف أخذنا أبو أحمد في سيارته الي منزل أبو عمر علي الساحل التركي من أجل " استذكار أيام الثورة الجميلة " . وكان أبو عمر مظهره أنيق وشعره قصير ويرتدي قميص البولو ويحمل تليفون محمول أيفون جديد. وأخذنا للخارج لتناول صينية السمك وبدأ علي الفور في العويل.  

يقول أن جماعته خسرت الأرض والشعبية لصالح جبهة النصرة، ولم يعد هناك أحد يبالي بالعمل مع الامريكان. ويقول : " الاتراك يعاملوني وكأني أمريكي. جبهة النصرة تعاملني معاملة الخائن. لا أحد يعاملني مثلما أجلس مع الامريكيين لأنني سوري يود أن يبذل كل ما في وسعه من أجل قضيته. وأتساءل كيف يراني الامريكيين؟ هل يروني وطني ؟ هل يروني مرتزقا ؟ " .

ظلت العلاقة الامريكية التركية مشحونة رغم تجديد الرئيس ترامب مناقشة فرض حظر للطيران وموافقة واشنطون الضمنية علي التدخل العسكري التركي في شمال سوريا لتطهيرها من داعش وطرد الوحدات الكردية من علي طول حدودها. ويقول المحلل السياسي أرون شتاين، من مجلس الأطلنطي في واشنطون : " هناك تحسن في العلاقات بنسبة 1000 بالمئة - ولا تزال فظيعة " .

وأصبح الإجهاد النفسي، بالنسبة لأبو أحمد، إجهادا بدنيا . وتقول زوجته أن قيادتة السيارة الي المنزل بدأت تثير قلقها. وتقول أنه أوقف السيارة خلال الشهور القليلة الماضية ثلاثة مرات فشعرت بالقلق ان يكون قد أصيب بنوبة قلبية .وتقول زوجته : " لا يعاني من أي شيئ . الأطباء قالوا أنها نوبة فزع " . 

وتمر علي أبو أحمد أيام يفكر فيها في مغادرة المنطقة برمتها . لكن الأمر ليس سهلا. ألمانيا رفضته بسبب علاقاته في الماضي بجماعة ثورية متهمة بارتكاب جرائم حرب

ويقول أنه طلب من بعض المسئولين الامريكيين في العام الماضي ان يساعدوه في الانتقال الي الولايات المتحدة. أخبروه ان يسجل نفسه كلاجيئ في أحد مكاتب الأمم المتحدة . وبعدها لم يسمع منهم أي رد . وزاد القرار التنفيذي الذي أصدره الرئيس ترامب مؤخرا من صعوبة دخوله الولايات المتحدة .




المصدر موقع صحيفة الفاينانشيال تايمز   https://www.ft.com/content/791ad3bc-ecfc-11e6-930f-061b01e23655

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق