الاثنين، 10 أبريل 2017

لمن غاز السارين ؟ بقلم سيمور هيرش

لمن غاز السارين ؟
 19 ديسمبر 2013

لم يروي باراك أوباما هذا الخريف القصة الكاملة عندما كان يحاول تبرير أن بشار الأسد كان المسئول عن الهجوم بالأسلحة الكيماوية بالقرب من دمشق في 21 أغسطس . وأخفي في بعض الحالات معلومات إستخباراتية مهمة وفي حالات أخري قدم فرضيات علي أنها حقائق. والأهم من ذلك كله فشله في الاعتراف بشيء معروف لدي أجهزة الإستخبارات الأمريكية : وهو أن الجيش السوري ليس الطرف الوحيد في الحرب الأهلية السورية الذي يمتلك غاز السارين، وهو غاز الأعصاب الذي خلص تقرير الأمم المتحدة – دون تحديد المسئولية – الي أنه استخدم في هجوم الصواريخ. وفي الشهور التي سبقت الهجوم أعدت وكالات المخابرات الأمريكية عدد من التقارير شديدة السرية، والتي توجت بالتقرير المسمي " نظام العمليات "، وهو عبارة عن وثيقة لوضع خطط تسبق القيام بغزو بري، واستشهدوا بأدلة تشير الي أن جبهة النصرة، وهي جماعة جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة، تمكنت من إتقان صنع غاز السارين وقادرة علي تصنيعها بكميات كبيرة . وعندما وقع الهجوم كان يجب الاشتباه في جبهة النصرة، إلا أن الإدارة الأمريكية تلاعبت بالمعلومات الإستخبارية لتبرير توجيه ضربة للأسد.

وفي خطابه المتلفز عن سوريا في 10 سبتمبر الذي أذيع علي مستوي الأمة الأمريكية ألقي أوباما باللوم الشديد علي حكومة الأسد علي الهجوم بغاز الأعصاب في ضاحية الغوطة الشرقية التي يسيطر عليها الثوار، وأوضح أنه مستعد لتنفيذ تحذيراته المعلنة سابقا والتي صرح فيها أن أي استخدام للأسلحة الكيماوية هو عبور " الخط الأحمر " . وقال : " حكومة الأسد استخدمت الغاز في قتل حوالي ألف شخص. نحن نعلم أن نظام الأسد هو المسئول ....... وهذا هو ما دفعني، بعد مداولات متأنية، أن أقرر أن من مصلحة الأمن القومي الأمريكي الرد علي استخدام الأسلحة الكيماوية من خلال توجيه ضربة عسكرية موجهة " . أوباما كان ذاهبا إلي الحرب لينفذ تهديدا معلنا، لكنه كان يفعل ذلك دون أن يعلم يقينا من فعل ماذا في الصباح الباكر من 21 أغسطس .

واستشهد بقائمة مما يبدو أنها أدلة دامغة علي ارتكاب الأسد لتلك الجريمة. " نحن نعلم أنه في الأيام التي سبقت 21 أغسطس كان أفراد من المسئولين عن أسلحة الأسد الكيماوية يجهزون لهجوم بالقرب من منطقة كانوا يخلطون فيها غاز السارين. ووزعوا أقنعة الغاز علي قواتهم. ثم أطلقوا الصواريخ من منطقة يسيطر عليها النظام علي 11 حي كان يحاول النظام ينظفها من قوات المعارضة " . وحينها ردد دينيس ماكدونو، رئيس موظفيه، يقين أوباما عندما قال لصحيفة نيويورك تايمز : " لا أحد ممن تحدثت إليهم يشكك في المعلومات الاستخباراتية" التي تربط الأسد ونظامه مباشرة بهجمات غاز السارين .

لكني وجدت في الحوارات التي أجريتها مؤخرا مع ضباط في الجيش والمخابرات والمستشارين سواء السابقين أو الحاليين قلقا شديدا، وفي بعض الحالات وجدت غضبا عارما، بسبب تكرار مشاهد التلاعب المقصود بالمعلومات الاستخباراتية . وكتب ضابط مخابرات رفيع المستوي رسالة بريدية الي زميل له قال له فيها أن تأكيدات الإدارة الأمريكية عن مسئولية الأسد هي مجرد " خدعة " . وكتب أيضا أن الهجوم " لم يكن نتيجة النظام الحالي " . وقال لي مسئول كبير سابق في المخابرات أن إدارة أوباما غيرت المعلومات المتاحة لديها – بالنسبة لتوقيتها وتسلسلها – لتمكين الرئيس ومستشاريه لجعل المعلومات الاستخباراتية التي تم استرجاعها بعد أيام من الهجوم تبدو وكأنه قد تم جمعها وتحليلها في الوقت الفعلي، أثناء حدوث الهجوم. وقال لي أن هذا التحريف ذكره بحادثة خليج توكنكن سنة 1964، عندما غيرت ادارة الرئيس جونسون تسلسل المعلومات الاستخباراتية التي رصدتها وكالة الأمن القومي لتبرير أول عمليات قصف شمال فيتنام. وقال نفس المسئول ان هناك خيبة أمل كبيرة بين  أفراد  الجيش والمخابرات. " هؤلاء الأفراد يرفعون أيديهم الي السماء قائلين : " كيف نساعد هذا الشخص ؟ " – أوباما – " بينما هو وزبانيته يواصلون التلاعب بالمعلومات الاستخباراتية علي طول الطريق "   

وتركز الشكاوي علي ما لا تملكه واشنطون : والمتمثل في أي تحذير مسبق من المصدر المفترض عن الهجوم . ويقوم جهاز المخابرات العسكرية منذ سنوات بإعداد موجزا للمعلومات الاستخباراتية شديد السرية يقدم في الصباح الباكر، معروف باسم " تقرير الصباح"، ويقدم الي وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، وتذهب نسخة لمستشار الأمن القومي ومدير المخابرات الوطنية. ولا يضم تقرير الصباح معلومات اقتصادية أو سياسية بل يقدم ملخصا للأحداث العسكرية الهامة حول العالم والمعلومات الاستخباراتية المتاحة الخاصة بها. وقال لي مستشار كبير في المخابرات أنه راجع التقارير الخاصة بالهجوم من 20 أغسطس إلي 23 أغسطس . وخلال هاذين اليومين – من 20 إلي 21 أغسطس – لم يكن هناك ذكر لسوريا. وفي تقرير الصباح المقدم في 22 أغسطس كانت الفقرة الرئيسية تتعلق بمصر، والفقرة التالية تتناول التغيير الداخلي في هيكل القيادة لإحدى الجماعات الثورية في سوريا. ولم يذكر شيء عن استخدام غاز الأعصاب في دمشق في هذا اليوم. ولم يصبح استخدام غاز السارين هو القضية الرئيسية إلا في 23 أغسطس، رغم انتشار مئات الصور والفيديوهات الخاصة بالمذبحة طوال ساعات علي اليوتيوب والفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. وحتى هذه اللحظة لم تكن الإدارة الأمريكية تعلم أكثر مما يعلمه الجمهور.

وغادر أوباما واشنطون في وقت مبكر في 21 أغسطس في جولة استغرقت يومين لإلقاء كلمة في نيويورك وبنسلفينيا . وذكر المكتب الصحفي للبيت الأبيض أن قد تم إبلاغه في هذا اليوم بالهجوم وحالة الغضب التي سادت الإعلام والجمهور. وقد ظهر انعدام أي معلومات استخباراتية فورية من الداخل في 22 أغسطس عندما قال جين بساكي، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، للصحفيين : " لم نتمكن بشكل قاطع من تحديد استخدام ( الأسلحة الكيماوية ) . لكننا نركز في كل دقيقة لكل يوم مر منذ وقوع هذه الأحداث علي فعل ما في وسعنا في نطاق سلطتنا لجمع الحقائق " .  واشتدت نبرة الإدارة الأمريكية في 27 أغسطس، عندما قال جاي كارني، السكرتير الصحفي لاوباما، للصحفيين – دون أن يقدم أي معلومات محددة – أن أي اقتراحات بأن الحكومة  السورية غير مسئولة " هي اقتراحات خرقاء مثلها مثل الاقتراح بأن الهجوم لم يقع " .

ويبين غياب الإنذار الفوري داخل جهاز المخابرات الأمريكية  أنه لم تتوافر أي معلومات استخباراتية عن النوايا السورية في الأيام التي سبقت الهجوم. وهناك علي الأقل وسيلتين علمت الإدارة الأمريكية عن طريقهما بالهجوم بشكل مسبق : وكلاهما تطرق إليهما أحد وثائق المخابرات الأمريكية شديدة السرية التي نشرها في الشهور الأخيرة إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية.

وفي 29 أغسطس نشرت صحيفة الواشنطون بوست مقتطفات من الميزانية السنوية المخصصة لكل برامج المخابرات الوطنية، وكالة تلو الوكالة، والتي وفرها سنودن. وبالتشاور مع إدارة أوباما، اختارت الصحيفة نشر جزء بسيط فقط من الوثيقة المكونة من 178 صفحة، والمصنفة وثيقة أعلي من سرية للغاية، لكن الصحيفة لخصت ونشرت جزءا يتناول المناطق التي تشكل إشكالية. ومن المناطق التي تشكل إشكالية فجوة في استهداف مكتب الأسد. وذكرت الوثيقة أن أجهزة التصنت الالكترونية التابعة لوكالة الأمن القومي علي مستوي العالم كانت لديها " القدرة علي مراقبة الاتصالات الغير مشفرة بين المسئولين العسكريين الكبار في بداية الحرب الأهلية هناك " . لكن هذه الأجهزة كانت " من الهشاشة حتى أن قوات الرئيس بشار الأسد اكتشفتها فيما بعد " . وبمعني أخر، لم يعد لوكالة الأمن القومي قدرة علي التجسس علي محادثات القيادات العسكرية الكبرى في سوريا، وهي محادثات قد تحتوي علي اتصالات مهمة خاصة بالأسد، مثل أوامر استخدام غاز الأعصاب في الهجمات. ( لم تدعي ادارة اوباما في تصريحاتها المعلنة منذ 21 أغسطس أن لديها معلومات محددة حول علاقة الأسد نفسه بالهجوم )

وقدم لنا تقرير الواشنطون بوست أول مؤشر علي وجود نظام تجسس سري داخل سوريا، الذي صمم لتوفير إنذار مبكر عند حدوث أي تغيير في وضعية مستودعات الأسلحة الكيماوية الخاصة بالنظام. وأجهزة التجسس يراقبها مكتب الاستطلاع القومي، وهي وكالة تتحكم في كل أقمار التجسس الامريكية التي تدور في الفلك. وجاء في الموجز الذي نشرته الواشنطون بوست أن مكتب الاستطلاع القومي مكلف " باستخلاص البيانات من أجهزة التصنت الموضوعة علي الأرض " داخل سوريا. وقال لي مسئول المخابرات الكبير، الذي علي إطلاع مباشر بهذا البرنامج، أن أجهزة التصنت الخاصة بمكتب الاستطلاع القومي قد زرعت بالقرب من كل مواقع المواد الكيماوية في سوريا. وقد صممت هذه الأجهزة لتوفير مراقبة دائمة لحركة الرؤؤس الحربية الكيماوية التي خزنها الجيش. لكن الأهم من ذلك - فيما يتعلق بالإنذار المبكر - هو قدرة هذه الأجهزة علي تحذير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية عند تحميل الرؤؤس الحربية بغاز السارين.( فإسرائيل كدولة جارة حذرة دوما من حدوث تغيير في ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية وتعمل عن قرب مع المخابرات الأمريكية بخصوص الإنذار المبكر ) . عند تحميل الرؤؤس الحربية الكيماوية بغاز السارين فإنه يبقي نشطا بضعة أيام أو أقل - وبعدها يبدأ غاز الأعصاب في التهام الصاروخ علي الفور تقريبا. وقال لي مسئول المخابرات الكبير : " الجيش السوري ليس لديه ثلاثة أيام ليتجهز لهجوم كيماوي " . " لقد أنشأنا نظام التجسس لأجل رد الفعل المباشر، مثل الإنذار بقيام غارة جوية أو تحذير بإطلاق النار. لن تتمكن من الحصول علي إنذار بعد ثلاثة أيام لأن كل المشاركين سيكونوا من الأموات. الأمر هو إما الآن أو تصبح تاريخا. لن تقضي ثلاثة أيام للاستعداد لإطلاق غاز الأعصاب" . وقال المسئول السابق أن أجهزة التجسس لم تكشف أي حركة في الشهور والأيام التي سبقت 21 أغسطس. وبالطبع هناك احتمال أن يكون الجيش السوري قد حصل علي غاز السارين بوسائل أخري، لكن عدم وجود إنذار يعني أن واشنطون لم تكن قادرة علي مراقبة الأحداث في شرق الغوطة عندما ظهرت للعيان.

في الماضي كانت أجهزة التجسس تعمل وكانت القيادة السورية علي علم كامل بها. وفي شهر ديسمبر الماضي التقطت أجهزة التجسس مؤشرات علي ما بدي أنه إنتاج غاز السارين في أحد مستودعات الأسلحة الكيماوية. ولم يتبين علي الفور ما إذا كان الجيش السوري يحاكي عملية إنتاج غاز السارين كجزء من أحد التدريبات ( كل الجيوش تمارس هذه التدريبات ) أو كان بالفعل يستعد للقيام بهجوم. وفي تلك الفترة حذر أوباما سوريا علنا من أن استخدام غاز السارين " غير مقبول تماما "، وتم تمرير رسالة مماثلة علي يد وسائل دبلوماسية. ثم ثبت لاحقا أن هذه الواقعة كانت في إطار سلسلة من التدريبات، وفقا لما ذكره مسئول المخابرات الكبير. " إذا كان ما رأته أجهزة التجسس في ديسمبر الماضي ذو أهمية كبيرة لدرجة أن الرئيس نادي وقال " دمروها " فلماذا لم يصدر الرئيس نفس التحذير قبل ثلاثة أيام من هجوم شهر أغسطس ؟ "

وقال المسئول السابق أن وكالة الأمن القومي ستراقب الأسد علي مدار الساعة إن استطاعت. وستكون الاتصالات الأخرى التي تجريها عدة وحدات قتالية في الجيش السوري أقل أهمية بكثير ولن يتم تحليلها في حينها. وقال : " يوجد حرفيا ألاف من ترددات الراديو التكتيكية تستخدمها الوحدات التي تقاتل في الميدان في سوريا في الاتصالات الروتينية العادية، وهي تحتاج إلي عدد ضخم من الفنيين في فك الشفرات التابعين لوكالة الأمن القومي لتنصت عليها وستكون الاستفادة منها صفر " . لكن " الدردشات " تخزن بشكل روتيني في الكمبيوترات. وبمجرد أن علمت وكالة الأمن القومي بحجم الإحداث التي وقعت في 21 أغسطس بذلت جهودا مكثفة بحثا عن أي روابط لها علاقة بالهجوم، وفتشت في الأرشيف الكامل للاتصالات المخزنة. يتم اختيار كلمة افتتاحية أو كلمتين ثم يستخدم مرشح للعثور علي المحادثات المطلوبة. وقال المسئول السابق الكبير : " ما حدث هنا هو أن أفراد من المخابرات التابعين لوكالة الأمن القومي بدءوا بحدث - وهو استخدام غاز السارين - وبحثوا عن دردشات قد يكون لها علاقة بتلك الحادثة . ولم يؤدي هذا إلي تقييم يحظي بثقة عالية، إلا إذا بدأت بثقة عالية بالقول أن بشار الأسد هو من أصدر الأوامر، فبدأوا في البحث عن أي شيء يؤيد هذا المعتقد " .  وكانت عملية التلاعب شبيهة بالعملية التي استخدمت لتبرير الحرب علي العراق .

واحتاج البيت الأبيض تسعة أيام ليجمع حججه ضد الحكومة السورية. وفي 30 أغسطس استضاف البيت الأبيض مجموعة منتقاة من الصحفيين في واشنطون ( ولم توجه الدعوة لصحفي ناقد واحد علي الأقل، وهو جوناثان لانداي، المراسل الصحفي لصحيفة مكالاتشي المتخصص في شئون الأمن القومي ) وسلموهم وثيقة حملت اسما أختير بعناية وهو " تقييم الحكومة " وليس تقييما قامت به أجهزة المخابرات. وضمت الوثيقة ما هو بالأساس رأي سياسي لدعم حجة الإدارة الأمريكية ضد حكومة الأسد. ومع ذلك كانت الوثيقة محددة أكثر مما كان عليه أوباما لاحقا في خطابه الذي ألقاه في 10 سبتمبر. ونصت الوثيقة أن المخابرات الأمريكية كانت علي علم أن سوريا بدأت في " تجهيز الذخيرة الكيماوية " قبل ثلاثة أيام من الهجوم. وفي خطاب عنيف ألقاه لاحقا في نفس اليوم وفر لنا جون كيري المزيد من التفاصيل. لقد قال أن " الأفراد المسئولين عن الأسلحة الكيماوية في سوريا كانوا موجودين علي الأرض، في المنطقة، يقومون بالتجهيزات في 18 أغسطس " . وقال : " نحن نعلم ان عناصر من النظام السوري قيل لها أن تتجهز للهجوم بأن ترتدي أقنعة الغاز وأن تأخذ احتياطاتها المرتبطة بالأسلحة الكيماوية " . تقييم الحكومة وتصريحات كيري جعلت الأمر يبدو وكأن الإدارة الأمريكية كانت تتعقب هجوم غاز السارين عند وقوعها.  وكانت هذه الرواية للأحداث، وهي رواية غير حقيقية وان كانت محل خلاف، هي الرواية التي تنشر في الصحف علي نطاق واسع .

وجاء أحد ردود الأفعال غير المتوقعة في شكل شكاوي من قيادة الجيش السوري الحر وآخرين بشأن عدم وجود إنذار. وقالت رزان زيتونة، وهي من أعضاء المعارضة كانت تعيش في احدي المدن التي تعرضت لهجوم غاز السارين، لصحيفة الفورين بوليسي : " إنه لأمر لا يصدق ألا يفعلوا شيئا لإنذار الناس أو محاولة منع النظام من ارتكاب تلك الجريمة " . وكانت صحيفة الميل أكثر جرأة حيث كتبت : " تقرير للاستخبارات يقول أن مسئولين أمريكيين كانوا علي علم بهجوم غاز الأعصاب قبل ثلاثة أيام من مقتل 1400 شخص من هذا الهجوم - وبينهم أكثر من 400 طفل " . ( اختلفت أرقام القتلى المنسوبين للهجوم بشكل واسع، وتراوح عددهم من 1429 كما زعمت إدارة اوباما في البداية إلي عدد أقل بكثير. ونشرت منظمة حقوق إنسان سورية أن عدد القتلى بلغ 502 وذكرت منظمة أطباء بلا حدود أن العدد هو 355، وحصر تقرير فرنسي 281 من الضحايا المعروفين. ونشرت صحيفة الوول ستريت جورنال فيما بعد العدد الإجمالي الدقيق الصاعق الذي حصرته الولايات المتحدة والذي لم يكن مبنيا علي العد الفعلي للجثث بل مبنيا علي استقراء محللي السي اي ايه الذين فحصوا أكثر من مئة مقطع فيديو علي اليوتيوب من الغوطة الشرقية داخل نظام كمبيوتر وبحثوا عن صور القتلى. وبمعني أخر، لم يكن أكثر من تخمين )

  وبعد خمسة أيام رد المتحدث الرسمي لمدير مكتب المخابرات القومية علي الشكاوي. وذكر بيان نشرته وكالة الاسوشيتد برس أن المعلومات الاستخباراتية وراء مزاعم الإدارة الأمريكية المبكرة لم تكن معروفة في وقت الهجوم بل استخلصتها فيما بعد. " علينا أن نكون واضحين. الولايات المتحدة لم تكن تراقب بشكل مباشر عندما وقع هذا الهجوم . تمكن جهاز المخابرات من جمع وتحليل المعلومات بعد الحادثة وقرر أن عناصر من نظام الأسد اتخذت إجراءات للاستعداد قبل استخدام الأسلحة الكيماوية. " . ولكن بعد أن نشرت كتيبة الصحافة الأمريكية القصة لم يلقي التراجع عن تلك القصة إلا اهتماما ضئيلا. ففي 31 أغسطس نشرت الواشنطون بوست علي صفحتها الأولي، معتمدة علي تقرير الحكومة، أن المخابرات الأمريكية تمكنت من تسجيل " كل خطوة " لهجوم الجيش السوري في حينها، " من الاستعدادات المكثفة لإطلاق الصواريخ إلي تقييمات ما بعد العملية علي يد المسئولين السوريين " . ولم تنشر التصحيح الذي نشرته وكالة الاسوشيتد برس واحتفظ البيت الأبيض بالسيطرة علي رواية الأحداث.

لذا فعندما قال اوباما في 10 سبتمبر أن إدارته كانت تعلم أن أفراد مسئولين عن الأسلحة الكيماوية تابعين للأسد كانوا يجهزون مقدما للهجوم، لم يكن يبني تصريحاته علي معلومات استخباراتية تم رصدها أثناء حدوثها بل بناء علي اتصالات تم تحليلها بعد مرور أيام علي 21 أغسطس . وأوضح مسئول المخابرات السابق أن البحث عن المحادثات المطلوبة تعود إلي التدريب الذي تم اكتشافه في شهر ديسمبر السابق والذي، كما قال أوباما لاحقا للناس، حشد فيه الجيش السوري الأفراد المسئولين عن الأسلحة الكيماوية ووزع علي قواته أقنعة الغاز. ولم يكن تقييم الحكومة الذي قدمه البيت الأبيض ولا خطاب اوباما توصيفا لأحداث محددة سبقت هجوم 21 أغسطس، بل مجرد رواية لتسلسل يتبعه الجيش السوري عند وقوع أي هجوم كيماوي. وقال المسئول السابق : " لقد جمعوا قصة قديمة وهناك الكثير من القطع والأجزاء المختلفة. النموذج الذي استخدموه هو نموذج يعود إلي شهر ديسمبر " . وهناك احتمال بالطبع ان اوباما لم يكن يعلم أن هذه الرواية تم الحصول عليها من تحليل لبروتوكولات الجيش السوري عند إجراء هجوم بالغاز، وليس من أدلة مباشرة. وفي كلتا الحالتين يكون قد توصل الي حكم متعجل.

وحذت الصحافة حذو الإدارة الأمريكية. كان تقرير الأمم المتحدة الذي أكد استخدام غاز السارين حريصا علي ذكر أن الإذن بدخول المحققين لمواقع الهجوم، الذين جاءوا بعد خمسة أيام من الهجوم بالغاز، كانت تتحكم فيه قوات الثوار. وجاء في التقرير التحذير التالي : " أما بالنسبة للمواقع الأخري فإن هذه المواقع كان يتردد عليها أفراد آخرين قبل وصول البعثة ... وأثناء الفترة التي قضيناها في تلك المواقع كان يصل أفراد يحملون ذخيرة مشبوهة مما يشير الي أن هذا الدليل المحتمل قد تم نقله وربما تم التلاعب به." .  ومع ذلك استغلت صحيفة نيويورك تايمز التقرير، كما فعل المسئولين الأمريكيين والبريطانيين، وزعمت أنه يقدم أدلة دامغة تؤكد مزاعم الإدارة الأمريكية. وضم مرفق في التقرير صورا للذخيرة التي تم معالجتها والتي تم إعادة إنتاجها من مقاطع فيديو علي موقع اليوتيوب، وضمت تلك الصور صورة لصاروخ " يطابق بشكل واضح " تفاصيل صاروخ مدفعي عيار 330 مم . وكتبت النيويورك تايمز أن وجود الصواريخ يثبت أن الحكومة السورية هي المسئولة عن الهجوم " لأن الأسلحة المعنية لم توثق في السابق ولم يرد من قبل أنها في حوزة الثوار " .    

راجع تيودور بوستول، الأستاذ الجامعي المتخصص في التكنولوجيا والأمن القومي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، صور الأمم المتحدة مع مجموعة من زملائه وتوصل الي أن الصاروخ من العيار الكبير كان صاروخا مرتجلا والاحتمال الأكبر أنه قد صنع محليا. وقال لي أنه " شيء تستطيع أن تصنعه في ورشة قدراتها متواضعة " . وأضاف أن الصاروخ الموجود في الصورة لا يطابق مواصفات صاروخ مماثل ولا حتي أصغر صاروخ من تلك  الصواريخ المعروف أنها موجودة في المستودعات السورية . ومرة أخري حللت النيويورك تايمز، معتمدة علي بيانات تقرير الأمم المتحدة، مسار طيران صاروخين مستنفرين كان يعتقد أنهما كانا يحملان  غاز السارين، وتوصلت الي أن زاوية الهبوط " كانت تشير بشكل مباشر " الي أنهما أطلقا من قاعدة عسكرية للجيش السوري من علي بعد أكثر من تسعة كيلو متر من منطقة الهبوط . وقال بوستول، الذي خدم كمستشار علمي لرئيس العمليات البحرية في وزارة الدفاع، أن مزاعم التايمز وصحف أخري " لم تكن مبنية علي ملاحظات فعلية " . وتوصل إلي أن مسار الطيران بشكل خاص كان، كما ذكر في أحد رسائله البريدية، " غباء مطلق " لأن الدراسة المتأنية بينت أن مدي الصواريخ المرتجلة " من المستبعد " أن يصل إلي أكثر من 2 كيلو متر . ونشر بوستول وزميل له يدعي ريتشارد لويد تحليلا بعد أسبوعين من 21 أغسطس وقيموا فيه بشكل صحيح أن الصواريخ المعنية كانت تحمل حمولة من السارين أكبر مما كان يقدر في السابق.  وكتبت التايمز تقريرا مطولا عن هذا التحليل ووصفت بوستول ولويد بأنهما " من رواد خبراء الأسلحة " . وأرسل الاثنان الدراسة التي أجرياها عن مسارات رحلة الصواريخ ومداها، والتي تتناقض مع تقرير التايمز السابق، إلي الصحيفة في الأسبوع الماضي بالبريد الالكتروني. ولم تنشر عنها حتى الآن

واقترن تحريف البيت الأبيض لما كان يعلمه عن الهجوم باستعداده لتجاهل المعلومات الاستخباراتية التي كانت ستضعف روايته. هذه المعلومات تخص جبهة النصرة، وهي جماعة إسلامية تابعة للثوار وتصنفها الولايات المتحدة والأمم المتحدة منظمة إرهابية. ومعروف عن جبهة النصرة أنها نفذت العشرات من العمليات الانتحارية ضد المسيحيين وضد مسلمين آخرين من غير الطائفة السنية واعتدت علي حلفائها الشكليين في الحرب الأهلية، الجيش السوري الحر. وهدفها المعلن هو إسقاط نظام الأسد وإقامة الشريعة. ( في 25 سبتمبر انضمت النصرة لعدد من الجماعات الاسلامية التابعين للثورة وتبرؤوا من الجيش السوري الحر وفصيل آخر يسمي الائتلاف الوطني السوري )      

ويرجع تركيز الاهتمام الأمريكي علي جبهة النصرة وغاز السارين الي عدد من الهجمات بالأسلحة الكيماوية ارتكبت علي نطاق ضيق في شهر مارس وأبريل. ففي تلك الفترة أصرت الحكومة والثوار معا علي تحميل المسئولية للطرف الآخر . وتوصلت الأمم المتحدة في نهاية المطاف إلي أن أربع هجمات بالكيماوي تم تنفيذها، لكنها لم تحمل أي طرف المسئولية. وفي أواخر شهر أبريل قال مسئول من البيت الأبيض للصحافة أن أجهزة المخابرات أجرت تقييما " علي درجة متفاوتة من الثقة " وتوصلت الي أن الحكومة السورية كانت هي المسئولة عن الهجمات. وتخطي الأسد " الخط الأحمر " الذي رسمه أوباما. واحتل التقييم الذي أجرته المخابرات العناوين الرئيسية للصحف، لكن بعض التحذيرات المهمة ضاعت في الترجمة. واعترف المسئول المجهول الذي يقدم التقرير الموجز أن تقييم جهاز المخابرات " ليس كافيا لوحده ". وقال : " نريد أن نحقق أولا وقبل كل شئ في ذلك التقييم لنجمع الحقائق حتى نتمكن من وضع مجموعة من المعلومات المؤكدة ذات المصداقية لنتمكن من إطلاع صانعي القرار عليها " . وبمعني آخر، البيت الأبيض لم يكن لديه أدلة مباشرة علي تورط الحكومة أو الجيش السوري، وهي حقيقة لم تكن تذكر في التغطيات الصحفية إلا من حين لأخر. وأثر  كلام اوباما القاسي في المواطنين والكونجرس الذي يعتبر الأسد مجرم بلا رحمة.

وبعد شهرين أعلن بيان أصدره البيت الأبيض عن تغير بشأن اتهام سوريا وقال أن جهاز المخابرات لديه الان " ثقة عالية " أن حكومة الأسد هي المسئولة عن وفاة أكثر من 150 شخص بسبب الهجوم بغاز السارين. وتولد عن هذا البيان المزيد من العناوين الرئيسية في الصحف وقيل للصحافة أن أوباما قد أمر بزيادة المساعدات بالأسلحة الغير فتاكة للمعارضة السورية، ردا علي المعلومات الاستخبارية الجديدة. ومرة أخري صدرت إنذارات مهمة. فقد ضمت المعلومات الاستخبارية تقريرا ذكر أن المسئولين السوريين خططوا ونفذوا الهجوم. ولم يقدم التقرير أي تفاصيل ولم يحدد هوية من قدموا التقارير. وذكر بيان البيت الأبيض أن التحليل المعملي أكد استخدام غاز السارين، وأكد أيضا أن النتائج الايجابية لغاز الأعصاب " لا تذكر لنا كيف وأين تعرض هؤلاء الأفراد له ولا من قام بنشره " . وأضاف تصريح البيت الأبيض : " ليس لدينا تقارير يقينية موثوقة تشير الي أن المعارضة السورية حصلت علي أو استخدمت الأسلحة الكيماوية " . وهذا البيان كان يتناقض في حينها مع الأدلة التي كانت تنهال علي وكالات المخابرات الأمريكية.

وقال لي مستشار المخابرات الكبير أنه في أواخر شهر مايو أطلعت السي اي ايه إدارة الرئيس أوباما علي جبهة النصرة وتصنيعها لغاز السارين، وأرسلت تقارير تحذيرية أن جماعة أصولية سنية نشطة في العراق، وهي جماعة تنظيم القاعدة في العراق، أصبح لديها هي أيضا دراية بتصنيع غاز السارين. وفي تلك الفترة كانت جبهة النصرة تعمل في مناطق قريبة من دمشق، ومن ضمنها الغوطة الشرقية. وقد تناولت وثيقة إستخبارية صدرت في منتصف الصيف بشكل مكثف زياد طارق أحمد، خبير الأسلحة الكيماوية سابقا في الجيش العراقي، والذي قيل أنه انتقل إلي سوريا ويعمل في الغوطة الشرقية. وقال لي المستشار أنهم عرفوا طارق " كشخص تابع لتنظيم لقاعدة لديه سجل في صنع غاز الخردل في العراق وهو شخص متورط في صناعة واستخدام غاز السارين " . وهو يعد هدفا معروفا لدي الجيش الأمريكي.

وفي 20 يونيو وصلت برقية شديدة السرية مكونة من أربع صفحات تلخص ما عرف عن جبهة النصرة من قدرات خاصة بغاز الأعصاب إلي ديفيد شيد، نائب مدير وكالة مخابرات الدفاع. وقال المستشار : " ما أبلغ به شيد كان مكثفا وشاملا . لم تكن مجرد " نحن نعتقد " " . وقال لي أن البرقية لم تقدم تقييما بشأن ما إذا كان الثوار أو الجيش السوري هو من بادر بالهجمات التي شنت في شهر مارس وأبريل، إلا أنها أكدت التقارير السابقة التي ذكرت أن جبهة النصرة لديها القدرة علي الحصول علي غاز السارين. وتم اكتشاف عينة من غاز السارين الذي استخدم - بمساعدة عميل إسرائيلي - ولكن، حسب ما ذكر المستشار، لم تظهر تقارير عن العينة في المراسلات بالبرقيات.

وعدا عن هذه التقييمات، طالب رئيس هيئة الأركان بإجراء تحليل شامل لكل المصادر للتهديد المحتمل، بعد أن اعتقد أن القوات الأمريكية قد يصدر لها الأوامر بدخول سوريا لمصادرة الأسلحة الكيماوية في مخازن الأسلحة التابعة للحكومة. وشرح لي مسئول المخابرات السابق قائلا : " أمر العمليات يقدم الأساس الذي يبني عليه تنفيذ المهمة العسكرية، في حالة تم إصداره. ويضم هذا احتمال الحاجة إلي إرسال الجنود الأمريكيين إلي موقع الأسلحة الكيماوية في سوريا لحمايتها من استيلاء الثوار عليها. فإذا تمكن الثوار الجهاديين من السيطرة علي الموقع، كان الافتراض هو أن الأسد لن يقاتلنا لأننا نمنع الثوار من الحصول علي الكيماوي. وتحتوي كل أوامر العمليات علي مكون من مكونات التهديد الاستخباراتي. لدينا محللين تقنيين من وكالة المخابرات المركزية ووكالة استخبارات الدفاع وأفراد متخصصين في الأسلحة وأفراد متخصصين في المؤشرات والتحذيرات يعملون علي هذه المشكلة.... وتوصلوا إلي أن قوات الثوار كانت قادرة علي الهجوم علي قوة أمريكية بغاز السارين لأنهم كانوا قادرين علي إنتاج الغاز الفتاك. واعتمد هذا التحليل علي إشارات ومعلومات استخباراتية بشرية، وكذلك علي النوايا المعلنة والقدرات التقنية للثوار " .

وهناك أدلة تشير إلي أن بعض أعضاء هيئة الأركان المشتركة كانوا منزعجين في الصيف من احتمال القيام بغزو بري لسوريا ومنزعجين كذلك من رغبة أوباما المعلنة بإعطاء فصائل الثوار دعم بالأسلحة غير الفتاكة.  وفي شهر يوليو قدم الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان، تقييما قاتما، حيث قال للجنة الخدمات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ في شهادة علي الملأ أن " ألافا من قوات العمليات الخاصة وغيرها من القوات البرية " ستكون هناك حاجة إليها لمصادرة ترسانة الأسلحة الكيماوية المبعثرة في كل سوريا، بالإضافة لمئات الطائرات والسفن والغواصات والأسلحة الأخرى. وبلغت تقديرات البنتاغون لعدد القوات سبعون ألفا، لأن القوات الأمريكية ستضطر إلي حراسة أسطول الصواريخ السوري. فالوصول إلي أحجام كبيرة من الكيماويات التي تصنع غاز السارين دون وسيلة لتسليمها لن يكون ذا قيمة كبير بالنسبة لأي قوة من قوات الثوار. وفي خطاب أرسله ديمبسي الي عضو مجلس الشيوخ السيناتور كارل ليفين حذر فيه من أن اتخاذ قرار بالاستيلاء علي ترسانة الأسلحة السورية قد يكون له عواقب غير مقصودة، حيث قال : " لقد تعلمنا من العشر سنوات الماضية أنه ببساطة لا يكفي تغيير ميزان القوة العسكرية دون الأخذ في الاعتبار ما يلزم لبقاء الدولة وقيامها بوظائفها .... ولو انهارت مؤسسات الدولة في غياب معارضة قابلة للحياة قد نمكن دون قصد المتطرفين أو نطلق العنان لنفس الأسلحة الكيماوية التي تسعي للسيطرة عليها " .

امتنعت السي اي ايه عن التعليق علي هذا المقال، وقال المتحدثين باسم وكالة مخابرات الدفاع ومكتب مدير المخابرات الوطنية أنهم لا علم لهم بتقرير شيد، وعندما قدمنا لهم علامات محددة خاصة بالبرقية قالوا أنهم لم يتمكنوا من العثور عليها. وقال شون تيرنر، رئيس الشئون العامة لمكتب مدير المخابرات الوطنية، أن لا يوجد وكالة مخابرات، ومن ضمنها وكالة مخابرات الدفاع، " وضعت تقييما أن جبهة النصرة نجحت في تطوير قدرات علي تصنيع غاز السارين " .

لم يكن مسئولي الشئون العامة في الإدارة الأمريكية يشعرون بالقلق بشأن القدرات العسكرية لجبهة النصرة كما كان يشعر شيد في تصريحاته العامة. ففي أواخر شهر يوليو قدم رواية مزعجة عن قوة جبهة النصرة وذلك في منتدى أسبين الأمني السنوي في كولورادو. وقال شيد وفقا لتسجيل لكلمته التي ألقاها في المنتدى : " قمت بعد ما لا يقل عن 1200 جماعة مختلفة في المعارضة. وجبهة النصرة داخل المعارضة هي الأكثر تأثيرا وتكتسب قوة " . وقال أن هذا " يسبب لنا قلقا شديدا. وينتابني قلق شديد أنها لو تركت دون ضبط فإن أكبر العناصر المتشددة" - ويقصد تنظيم القاعدة في العراق - " سيستولون علي الحكم " . وواصل قائلا أن الحرب الأهلية " لن تزيد إلا سوءا مع الوقت ... وستحدث أعمال عنف لا يصدقها عقل" . لم يتطرق شيد إلي الأسلحة الكيماوية في كلمته، لكنه لم يكن ليسمح له بذلك. فالتقارير إلي استلمها مكتبه كانت سرية للغاية.

وذكرت مجموعة من الرسائل السرية التي جاءت من سوريا خلال فصل الصيف أن أعضاء الجيش الحر يشتكون لأفراد المخابرات الأمريكية بشأن الهجمات المتكررة التي تتعرض لها قواتهم من جبهة النصرة ومقاتلي تنظيم القاعدة. وقال مستشار المخابرات الكبير الذي قرأ تلك الرسائل أن هذه التقارير قدمت أدلة علي أن الجيش السوري الحر " ينتابهم شعور بالقلق من هؤلاء المهاوييس أكثر من شعورهم بالقلق من الأسد" . ويتكون الجيش السوري الحر بدرجة كبيرة من المنشقين عن الجيش السوري. وسعت إدارة اوباما، التي التزمت بإنهاء نظام الأسد وواصلت دعمها للثوار، في تصريحاتها العلنية منذ الهجوم إلي التقليل من شأن نفوذ الفصائل السلفية والوهابية. وفي أوائل شهر سبتمبر صدم جون كيري جلسة لمجلس الشيوخ بزعمه المفاجئ أن جبهة النصرة وجماعات إسلامية أخري يشكلون أقلية في المعارضة السورية . وتراجع عن هذا الزعم في وقت لاحق.

وتجاهلت الإدارة الأمريكية في مؤتمراتها الصحفية التي عقدتها بعد 21 أغسطس المعلومات الاستخباراتية المتاحة لديها عن احتمالية امتلاك جبهة النصرة لغاز السارين وواصلت الزعم بأن حكومة الأسد هي الوحيدة التي تمتلك الأسلحة الكيماوية. كانت هذه هي الرسالة التي تم تناقلها في عدة بيانات سرية مختلفة والتي استلمها أعضاء في الكونجرس بعد أيام من الهجوم، عندما كان اوباما يسعي إلي الحصول علي تأييد لهجومه الصاروخي الذي خطط له ضد المنشئات العسكرية السورية. وقال لي أحد المشرعين الذي لديه خبرة لأكثر من عشرين سنة في الشئون العسكرية أنه عاد لتوه من احدي تلك المؤتمرات مقتنعا أن " حكومة الأسد هي الوحيدة التي تملك غاز السارين وأن الثوار لا يملكونه " . وبالمثل، قالت سامنزا باور، سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، عقب صدور تقرير الأمم المتحدة في 16 سبتمبر الذي أكد استخدام غاز السارين في 21 أغسطس، في مؤتمر صحفي : " من المهم جدا ذكر أن نظام الأسد هو وحده من يمتلك السارين وليس لدينا أدلة تشير إلي امتلاك المعارضة للسارين " .

ولا نعلم ما إذا كانت التقارير شديدة السرية عن جبهة النصرة كانت متاحة لمكتب باور أم لا، لكن تصريحها كان انعكاسا لموقف ساد الإدارة الأمريكية كلها . وقال لي المسئول الكبير السابق في المخابرات : " كان الإفتراض الفوري أن الأسد هو من فعلها. توصل مدير السي أي ايه الجديد جون برينان إلي هذا الاستنتاج ... وقاد سيارته إلي البيت الأبيض وقال " انظروا إلي ما حصلت عليه "  . الأمر كله كان مجرد كلام شفهي. هم مجرد لوحوا بالقميص الملطخ بالدماء. كان هناك الكثير من الضغوط السياسية لإحضار أوباما إلي الطاولة لمساعدة الثوار، وكانت هناك أمنيات بأن يجبر هذا ( ربط الأسد بهجوم غاز السارين ) أوباما علي تقديم يد المساعدة. " وكانت هذه هي برقية زمرمان الخاصة بالثورة السورية وبإمكان اوباما الآن أن يقوم برد فعل " . وهي أمنية جناح سامنزا باور في الإدارة الأمريكية. ولسوء الحظ كان هناك أعضاء من هيئة الأركان ممن تم إبلاغهم انه سيقوم بهجوم لم يكونوا مطمئنين إلي أن هذا عمل جيد "    

ولم يحظي الهجوم الصاروخي المقترح علي سوريا بتأييد شعبي وتوجه اوباما بسرعة إلي الأمم المتحدة والاقتراح الروسي بنزع ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية. وتم التخلي تماما عن أي احتمال بالقيام بعمل عسكري في 26 سبتمبر عندما انضمت الادارة إلي روسيا في الموافقة علي مشروع قرار للأمم المتحدة يدعو حكومة الأسد إلي التخلي عن ترسانة الأسلحة الكيماوية. وأدي تراجع اوباما إلي شعور الكثير من الضباط الكبار بالارتياح . ( وقال لي مستشار رفيع المستوي في العمليات الخاصة أن الهجوم الصاروخي الأمريكي سيئ الإعداد علي المطارات العسكرية السورية ومواقع صواريخها، كما تصوره البيت الأبيض في البداية، كان سيكون " أشبه بتوفير الغطاء الجوي لدعم جبهة النصرة " )

ويثير تحريف الإدارة الأمريكية للحقائق الخاصة بهجوم غاز السارين سؤالا لا غني عنه : هل حصلنا علي القصة الكاملة لرغبة اوباما التراجع عن تهديد " الخط الأحمر " وقصف سوريا ؟ لقد ادعي أن لديه أدلة دامغة وفجأة وافق علي تحويل القضية إلي مجلس الشيوخ وبعدها وافق علي عرض الأسد بالتخلص من الأسلحة الكيماوية. ويبدو أنه ربما ووجه في مرحلة ما بمعلومات متناقضة : أدلة كافية لإقناعه بإلغاء خطة الهجوم وتحمل النقد الذي سيوجه له بالطبع من الجمهوريين.  

تناول قرار الأمم المتحدة الذي تبناه مجلس الأمن في 27 سبتمبر بشكل غير مباشر فكرة أن قوات الثوار مثل جبهة النصرة ستكون ملزمة بنزع أسلحتها حيث جاء في القرار : " لا يجوز لأي طرف في سوريا استخدام أو تطوير أو إنتاج أو الحصول علي أو تخزين أو نقل الأسلحة الكيماوية " . وطالب القرار أيضا بإبلاغ مجلس الأمن فورا في حالة حصول " أطراف غير تابعة للدولة " علي الأسلحة الكيماوية. لم تذكر أي جماعة بالاسم. وفي الوقت الذي يواصل النظام السوري التخلص من ترسانة أسلحته الكيماوية، المفارقة هي أنه بعد تدمير مستودعات الأسلحة الكيماوية الخاصة بالأسد قد تصبح جبهة النصرة وحلفائها الإسلاميين هم الوحيدين الذين يمتلكون المكونات التي يصنع منها السارين، وهو سلاح استراتيجي سيكون مختلفا عن أي سلاح آخر في منطقة الحرب . وربما يكون هناك حاجة للمزيد من التفاوض .

بقلم سيمور هيرش

https://www.lrb.co.uk/v35/n24/seymour-m-hersh/whose-sarin

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق